حلقة مفرغة ..

لا أعرف ما يدور من أحدث سياسية هذه الأيام لكني متأكد أن كل ما يدور من سياسة دولية في المنطقة لا يصب في صالحها، بل على العكس تماماً، الأعداء لازالوا يتربصون ونحن لازلنا نرتعش، الحلفاء يتمنعون ويشترطون ونحن نسايرهم في رغباتهم، لا نحن استطعنا أن نبني قوة ترهب الأعداء، ولا استطعنا أن نكسب حلفاء جدد يمكننا الاعتماد عليهم .

حلقة مفرغة، تذهب زعامات وتأتي زعامات والوضع لا يتغير، تنازل السابقون وخضع الحاليون وسيركع من يليهم وسيسجد من بعدهم، لا شيء يتغير سوى جرعة الهوان وكمية العار التي تلحق بنا كل عام، لا سجلات تنطوي على مجد  ولا إنجازات ، تدفن سجلات الموتى لكيلا يعرف عددهم أحد ولا يصل لجثثهم أحد .

شعوب ترزح تحت الذل وشعوب تحت الفقر وشعوب مترفة لا تريد إلا الاستمتاع، وأخرى تتأرجح بين بين، جميعاً لا هدف لديهم، صموا اذانهم وأغمضوا اعينهم، والخوف الذي يمنعهم من أن يتحركوا، هو نفسه الذي يمنع حكامهم أن يتحركوا، وكما تكونوا يولى عليكم .

غارقا في نفسي ..

“لا شيء معنا نُكلل به نزق المساء ورتابة اللحظة، سوى الخيبة، والضحكات المنفلتة من هواجسنا اللاذعة”
لم يبقَ سوانا يا جابر، لم تبقَ الزرقةُ معنا بعد هذا الغروب الشاحب؛ ذهبتْ حيث الليل، لترتاح  من يقظتنا، بقينا ننوس كسلًا على مسطبتنا؛ أين العابرون من هنا؟ كيف تواروا خلف الظلمة؟
 ولا شيء معنا نُكلل به نزق المساء ورتابة اللحظة، سوى الخيبة، والضحكات المنفلتة من هواجسنا اللاذعة.
هناك يا صاحبي خيط نوري، يُقسِّمُ الأفق، أنظر خيطَ خوفٍ وضياعٍ يُقسم مسطبتنا، نضحك، ونلف سجائرنا، نشعلها، وخلفها العالم يغور في عينك، تهتز من دخان الحروب، وتغضب من جلوسنا الطويل الطويل. 
ألم تقل يا ابن عتيق: اللحظة المتشظية لا يعاد تشكيلها إلا على مسطبة، تُزاحم فيها رائحة التبغ سقفَ هذه الظلام؟ 
ها نحن هنا تحته نعدُّ خسائر المهزومين. كم مضى على الظلام؟ سألتكَ لكنك اتكأتَ وحدَّقتَ صوب أحلامك، تُعلق عينيك على صدر أيامنا، فوق مسطبة المتصوفة، وتسأل بعدها شاردًا: كم سيطول غيابُنا؟ وإلى أين تقودنا آمالنا الغريقة؟ 
نحن الذين اخترنا هذه البقعة، وهذا الانتظار الطويلَ الطويل الطويل، عبثًا نراقب الغيب، كما نفعل يومًا بعد يوم على مسطبتنا، عبثًا نُحملق نحو الأفق، ننتظر طلوع الذئب من قمرة اللاوعي؛ لنحاول استيعاب خيبة العالم، في آنية اللحظة.
تصرخ وتثور قفزًا، لستَ أنت وحدك ترمم الأيام، وتكتب وتعانق الأهواء، وتخسر؛ أصعدُ معك على ما تبقى من حجارة مسطبتنا، وأصرخ: “أنت معي”؛ مثل المتصوف يقاتل العُزلة بالنشوة؛ ليمضي إلى الوحدة.
أحمد العلوي 
AhmedAlalawi
الدوحة قطر، فبراير 2023

رد …
عزيزي لا شيء يبقى فكل شيء محكوم عليه بالعودة للعدم، لا ألوان هناك ولا اشخاص فلا تستغرب أن تجرب بعض الذي سيحدث في المستقبل قبل وقوعه، فما نحن إلا ماء نثر على وجه الأرض ولا بد لنا أن نتبخر.
سنتذكر تلك الكلمات التي كنا نرسم بها المشهد كما كنا نرسم بها الحكايا، وكما نوجه بها الجدل والنقاش في لقاءاتنا المتتالية، نخرجها من أنفسنا العميقة، التي تسكنها الظلمة لنلقيها في الواقع فتصرعه أو يصرعها، فندفن أحدهم، أو ربما تتصادم حين تخرج كلماتي من الأعماق فتجابها كلماتك بدروعها وسيوفها وتدور المعركة التي لا دم فيها، وتذكر أن الموت بلا دم نازف هو أقسى موت يمكن أن يعيشه بشر.
حين تثور الحروب بين الكلمات يصبح للسيجارة معنى آخر، نشعلها وننفث دخانها وكأننا نخلق عواصف، ضبابٌ ودخان في ساحة المعركة، وحين تنزل الفوضى لعيوننا ننظر لبعضنا ونحن نرى المعركة ثم نضحك على ذلك المشهد التراجيدي الذي خلقناه من العدم، سنتذكر كم من الكلمات ألقينا في فوهة الجحيم لنخلق بها واقعاً مختلفاً يمكننا أن نرسم من خلاله خيطاً من النور أو رائحة عطر تغير الحاضر وتجعل الجميع يلتفت إلينا.
تمدد عزيزي على المذبح فلا خيار لك سوى أن تقدم نفسك قرباناً لآلهة لا تعرفها لكي تعبث بدمك، ستقول: تمدد أنت، سأخبرك حينا أني أعرف رائحة دمي فقد تمددت على مذابح كثيرة لكنها للأسف لم تنجح أن تخلق لي النهاية المحتومة وعليك أن تجرب الشعور حين ترى الدم ينزف ليشكل دائرة حولك وأنت لا تتحرك، وأكثر من ذلك تعرف أنك لن تموت، فالمذابح مثل الفاكهة المحرمة ما إن تذوقها مرة، تهوي للجحيم وتستسلم لكل المذابح التي تجدها أمامك.
عزيزي لا أملك غير الأفق لأنظر إليه فكل النظرات غائبة عن الواقع وراء فكر مجنون يسيطر على عقل رجل بسيط، استطاع أن يخلق عالماً في داخله أعمق وذا ابعادٍ مختلفة، تحيطه أسوار وخنادق ويقف امامه جنودٌ لا حصر لهم ولا عدد، فيعود أدراجه لوهمه الجميل، لكنه في يوم من الأيام استيقظ ليجد أن كل أفكاره قد تحطمت وتهدمت الأسوار ومات الجنود وأنه أصبح في الواقع، فرح ورقص وغنا، ثم اكتشف أن الواقع له اسوار أضخم وجنود اقوى وأقسى وأكثر، وأن الموت أخرج الشبح الذي يعيش بداخلي ليسيطر عليه.
اغلق عينيك عزيزي وأستسلم لفكرة غبية واحدة لا تغيرها ، الجمود رحمة لا ينالها إلا الأغبياء، لكنهم رغم غبائهم الذي يلومنهم عليه تكون أمامهم الأمور ابسط، فيقدمون ويبحرون، يخسرون ويضحكون كأن لا شيء قد حدث.
لتصبح أبن العربي، سألبس الصوف من أجلك، ونجوب العالم بأقدامٍ حافيه فالعالم لا يستحق أن نلبس له أحذية، علينا أن نطاه كما الخيول الجامحة لنترك أثرنا كندوب لا يستطيع أن يمحوها أحد..

jaberatiq

ضـغـيـنـة ..

أحياناً يحمل الأشخاص ضغينة أكبر مما نتوقع دون سبب …

ضـغـيـنـة

لم تكن تلك الابتسامات التي كنا نتبادلها مصدر إعجاب بل كانت تخفي ورائها الكثير من الضغينة ، والكثير من الحقد ربما لا احقد عليه أنا لكني دون شك أحمل له من الضغينة مالا يمكنه أن يتصوره ، وحين اعود للواقع لا أجد من ذلك الرجل أي تصرف يثير الضغينة في نفسي، فمنذ اللقاء الأول كان انطباعي عنه سيئاً، نظراته الحادة نبرة صوته المقرفة، جعلتني لا اتقبله على الإطلاق، لذا سعيت منذ ذلك اليوم أن أدمره فافتعلت المشاكل في كل عمل يقوم به وأنا متأكد أنه يعلم أني أقف خلف تلك الأمور المزعجة التي يواجهها ومتأكد أنه لو كان بمقدوره أن يدمرني لفعل، كم الفخاخ التي نصبتها له اوقعته في الكثير من المشاكل التي خرج منها مشوهاً ولولا أن علاقاته لا تزال جيدة ببعض المسؤولين، لتم طرده من العمل دون شك .

لا اعرف لما أبغضه ولا اعلم لما ينمو البغض في نفسي ويكبر كلما رأيته، لا أجد في نفسي سبب حقيقي، ورغم ذلك اشعر بالسعادة حين يقع في مشكلة افتعلتها له، بل ربما يفوق شعوري السعادة ذاتها واصل لمرحلة النشوى والرضا عن النفس، فأكون راضٍ كل الرضى في تلك المواقف .

الغريب في الأمر أن ذلك الشخص لم يتهمني بشكل مباشر ولم يقل أي كلمة سيئة في حقي رغم معرفته بكم البغض الذي احمله، وفي يقيني أنه إنسان خبيث يخفي ما يريد ولا يصرح به، بل حين أراه في العمل اشعر بأنه يخبئ سكيناً خلف ظهره .

أخبرني السكرتير اليوم أنه طلب مقابلتي، تجاهلت حديثه لكنه بعد نصف ساعة اخبرني أنه عاود الطلب، فطلبت منه أن يأخره قدر المستطاع فأنا أتمنى أن يمل ويرحل عن مكتبي دون أن ألتقيه ، ورغم ما فعلت انتظر ولم يغادر، اضطررت أن استقبله ولم يكن لقائنا طويلاً لأنه جاء كما يقول ليسلم علي ويشكرني بعد أن قدم استقالته من العمل، وبقيت كلماته ترن في اذني إلى الآن “اشكرك لأني تعلمت منك ما لم اتعلمه من غيرك”

ما أزعجني ليست كلماته الملغزة ولا ملامحه التي لا أطيقها ولا نظراته الحادة التي تستفزني، ما أزعجني أنه سيرحل وسأفقد برحيلة تلك المتعة التي اشعر بها في نفسي حين أوذيه، وأزعجني أنه سيرحل قبل أن ادمره قبل أن اشفي غليلي وأنا اراه ينهار .

لم ادع له بالتوفيق ولم أتمنَ له الخير حين أخبرني بأمر الإسقالة، حاولت استفزازه، كنت اريد أن تخرج من فمه أي كلمة لكي اصرخ في وجهه وأطرده من مكتبي لكنه لم يمنحني تلك الفرصة إلى حين صافحني قبل أن يخرج، حينها قال: أنت مريض نفسي ويجب أن تتعالج، سحبت يدي من يده وصرخت في وجهه: اخرج من مكتبي .

جلست على الكرسي واسترجعت كل ما افتعلت له من اذى ومشاكل، وشعرت أن كل ما فعلته لا يصل لأثر كلماته الأخيرة  التي جعلتني أتمنى أن اقتله قبل أن يخرج .

سيدتي .. لا اجد نفسي ..

سيدتي .. لا أجد نفسي .. فما بين لحظة سكينه تمر تأتي اللحظة التالية لتضج وتصرخ دون سبب، ولا تعود اللحظات لاستقرارها الذي كان يغيب طويلا ويأتي قصيرا، قصيرا جداً.

سيدتي اقلب نفسي بين ماضي عشته في ألم وحاضر اعيشه ألماً، وبين بين اجد تلك النفس المضطربة تضج بماضيها وحاضرها تتمرد لكنها تنكسر، تصرخ لكنها تدفن صراخها في صدري فيئن معها في نوبة حزن عميقة، لا تنتهي سوى بنوم متقطع يزعجني اكثر من السهر.

تلك قهوتي التي تعرفينها سوداء كالليل، قهوتي في الصباح أيضاً سوداء لا يتبدل لونها ولا يتغير مذاقها مع النور، تلك القهوة  “انا” بكل اختصار، لم يتغير فيّ شيء، لا زلت سيء المزاج تائه الفكر مشتت.

سيدتي  واكررها دوما، انت سيدتي، احدثك كما احدث نفسي، احشوا الكلمات في كل المفكرات التي املكها بندائي لكِ، واعرف أنك لن تسمعي تلك النداءات الميته ، فلا يصل صوت الموتى للحياة.

اليوم انت تتلبسن عقلي بذكرياتك، نظراتك، ذلك الفستان الأزرق وتلك الضفيرتين القصيرتين، تلك الصورة عالقة في ذهني لا تغيب، كقهوتي سيدتي لا يتغير طعمها ولا لونها، كذلك فستانك وضفيرتاك لا تتغيران في نظري، البراءة التي جعلتني اخرج من كل شيء سيء، لتلقيني فيما هو اسوء.

اعرف ومتأكد انكِ تعرفين ما سأقوله حين اراك صدفه في احد الأيام، أنا وأنت نعرف ما يقوله الصمت بين قلبين، كانا معا في صمتٍ جميل، والتقيا صدفة ، في وقت لن يحمل شيئاً من الجمال، احدهما لا زال يحب، والآخر ربما كان كذلك، لكنهما لا يريدان ان يلتقوا في صمتهم كالسابق.

لا تفكر ..

لا تفكر .. كثيراً فكثرة التفكير تنقلك لمسارات لا يمكن مغادراتها، لكن حين تفكر وتجد نفسك وصلت لنقطة توقف ابحث وأقرأ لكي تستمر في التفكير من منطلق صحيح فمجرد التفكير دون معرفة الآراء الأخرى يجعلك تدور في فلك واحد لا تخرج منه، مع الاطلاع والبحث تنتقل من فلك إلى فلك آخر ومن أفق لأفق، الاطلاع سيمنحك خبرة الآخرين ويطلعك على تصوراتهم فتنظر للأمر الذي تفكر فيه من عدة زوايا وتراه من ابعاد مختلفة فتكتشف الثغرات وتبني أمور صحيحة .

قراءة في كتاب “رواية السيدة التي سقطت في الحفرة” للكاتبة إيناس حليم

أنا سقطت في حفرة وأنا اقرأ هذه الرواية، وأنت لا بد من أن تسقط في حفرة كما سقطت شخصيات الرواية في حفرها الخاصة، فكل إنسان له حفرة إما يسقط فيها بإرادته أو رغماً عنه، حفر تكمن في صدورنا تبلعنا بالكامل في لحظة ما، لا نستطيع أن نتحكم فيها بأنفسنا، تحفرها الحياة على مقاسنا.

“سقطت في الحفرة وغابت” سيدة في مدينة البحر الإسكندرية ابتلعتها الأرض يروي كل شخص حكاية مختلفة عنها فتمتزج الحكاية “الحقيقة” بالأسطورة والخيال والوهم، شادن تتوه بين الأطراف تبحث عن الحقيقة وتصدق الأسطورة وتطارد الوهم، وتستسلم لأقلامها حتى ينكسر آخرها على صفحة النهاية التي لم ولن تكشف حقيقة السيدة التي سقطة في الحفرة، لكنها تخلق حفرة بحجم كل شخص في صفحاتها وشخوصها، حفرة تجعلك تبحث عن حفرتك الخاصة التي تخاف أن تنظر إليها لكيلا يبلعك الظلام فتغيب كما غابت ميرفت.

بالنظرة المعكوسة للعالم التي رسمت في بداية الرواية، الفتاه التي تعلق قدماها على الجدار وتقف على يديها وتنظر للعالم بالمقلوب تستطيع أن تعرف أن الخيوط في تلك الرواية متشابكه مع تعقيد ناعم يشبه نسيج الصوف الذي تخلفه ابر “التريكو” فترسم دوائر ومربعات، تمائم وممرات مظلمة تختفي خلفها حقائق او أوهام ساذجة نرى منها جزء من المشهد، أوهام لا ترقى أن تكون حقائق لكننا نسعى ورائها لنبحث عن المجهول في سطور الرواية نتتبع الخطوات، ندخل البيوت، نقابل الأشخاص ونحاورهم مع تلك الفتاة الحائرة التي تبحث في حفرة عن سيدة عملاقة اختفت.

تغرق الرواية في التفاصيل الصغيرة والوصف الدقيق، في الأدراج المغلقة في النقاط السوداء التي تتسع ويختبئ تحتها كل ما نخافه، بالفعل كنت ابحث وأنا اقرأ الرواية عن الحفرة التي سقط فيها كل شخص مر ذكره، ثم بدأت ابحث عن حفرتي وحفر من حولي، وارفع القبعة للكاتبة أيناس التي خلقة فراغاً في الرواية لكي يسأل القارئ نفسه أين حفرتي.

ربما لا يحب البعض كثرة التفاصيل في الرواية وكثرة الأساطير، لكنها تُكون حقيقة الاعتقاد لدى البشر حين يعجزون عن تفسير حادث ما لا يجدون له مبرر أو لم يتمكنوا من معرفة حقيقته فيلجؤون لتبريرات تخرج عن الواقع ويستغل الموقف أصحاب الأهواء ليصلوا للشهرة ويتسلقون الحوادث.

رواية شيقة تقع في 311 صفحة انصح بقراءتها.

قراءة في كتاب رواية الحرب لـ د. محمد اليحيائي

قبل أن اقرأ هذه الرواية توقعت أن اجدها عميقة وتركيباتها تخرج عن المعتاد ولم يخب ظني حين بدأت، فحين تقرأ رواية للدكتور محمد اليحيائي يجب أن تتوقع أنك ستقرأ لشخص يُخرج المعاني من الأعماق وينقلك بأسلوبه الفلسفي بين مواقع مختلفة وأزمنة وشخصيات متنوعة ولا تتوقع أن تكون روايته مجرد سرد لأحداث منتظمة، بل يكون السرد في افق متحرك بين شخوص الرواية وأحداثها.

الحرب هو الموضوع، ثورة ظفار بما حملته من أثقال ومن قيم ومبادئ لم تتحقق على الأرض، التمرد على الواقع الذي نبتت أفكاره في الداخل ثم تشعبت ليوجهها الخارج لتفقد بذلك الكثير من قيمتها ومعناها الذي قامت من أجله، التغيير في الفكر والتغير السياسة وتصادم أفكار الثوار هي الأسباب التي قوضت الدعائم الأساسية التي قام عليها الثورة في الجنوب وجعل المحاربين يتصادمون بين الواقع المحلي والواقع الإقليمي هل يغيرون النظام في عمان أن يغيروا واقع المنطقة بأكمله، متناسين أن المواجهة لم تكن مع نظام منعزل، بل نظام تحاول القوى الفاعلة الكبرى حمايته بكل الوسائل.

وحين يفقد الأنسان البوصلة يتوه في أفكاره وهذا ما تجسد بشكل واضح في شخصيات الرواية فمنهم من يعيش أوهام الحرب ومنهم من تخلى عنها وأنتقل لصف السلطة ومنهم من رفض الواقع الداخلي وخرج ثم أخرج من جوفه كل ما ينتمي للماضي ليعيش حياه لا تمت لانتمائه القديم بصلة، وآخرون كانوا متفرجين يبحثون عن الحقائق التي لم يستطيعوا أن يقدموها للأجيال لتعرف القصة كامله، وتستمع لطرفي النزاع بشكل محايد.

تحتار وأنت تقرأ من هي الشخصية الرئيسية في هذا العمل، هل هو سعيد صالح أو سعيد قيصر أم هي كرستينا سعيد أم والدها سعيد علي، ستكتشف أن البطل الحقيقي في الرواية هي الحرب بكل ما حملته من أفكار ومبادئ وبما تعنيه من تمرد أراد أن يكسر الطغيان ويحقق الحلم، الحرب بما حملته من كوارث على أصحابها، وفعلته في المزاج وما قتلته من أمل، المحور الرئيسي الذي سيربط جميع الشخصيات والأحداث هي الحرب التي جرت في الجنوب وكانت تحمل أفكاراً اكبر من الواقع ولا تنتمي لتلك الأرض، فتكسرت بن التغيير السياسي وبين ردة الفعل العنيفة والأطراف التي وقفت في مواجهتها وضعف الأطراف الداعمة لها.

ستكتشف أن الأمل في التغيير باقٍ في النفوس لكنه لم يتبلور بعد، الألسنة ما زالت مربوطة بأعراف وقوانين وخوف يقيد العقول التي تريد أن تطرح مشاكل المجتمعات الخليجية بشكل صحيح وتبحث عن حلول حقيقية تجعل تلك الدول المشتتة كيانات لها أنظمتها التي تحترم مواطنيها وتبني مستقبلها بشكل صحيح تندمج فيه كل المكونات وتُطرح من خلاله كل الأفكار دون خوف.

استخدام ذكي للعاطفة من قِبل الراوي زاوج بين العاطفة والتردد بين البقاء في الوطن والرحيل، ولن يكتمل الشهد أمامك، بل يبقى مبتوراً يحتمل كل التوقعات، كما النتائج التي انهت الحرب وأبقت احتمالات تجدد الثورة وتجدد الغربة والمعتقدات، لكن الحب كما الأمل في النفوس لا يرحل ولا نهاية له.

المتعة التي ربما لا يتقبلها البعض هي تباعد فصول الشخصيات، فهناك أبطال حضروا بقوه في البداية ثم غابوا بين أبوابها كهوامش ثم يعودون بعد أن يظن القارئ أن دورهم أنتهى أو أنهم كانوا مقدمة تمهيدية للدخول لعالم الرواية، وكذلك بعض المشاهد التي تخرج عن سياق الرواية كمقال يصف مطعم إيطالي، أيضاً العودة للبعيد في حرب سابقة بين الأمام والسلطان لكن تلك المسافات الخارجة عن النص تعتبر دمج لواقع الشخصيات في المشهد القائم الذي يرسمه الراوي كمشهد عام.

الرواية ممتعة وعميقة وتحمل أسلوب متميز تقع في 360 صفحة وأنصح بقراءتها بشكل عام وللمهتمين بالشأن العماني والباحثين في التاريخ السياسي لمنطقة الخليج بشكل خاص.

مات الأول .. ورحل الثاني …

نشر في 10 أبريل، 2017

 ظهر رغم كل المشاكل التي واجهته وتغلب عليها ومع قدرته العجيبة على تخطي العقبات لم يستطع أن يتخطى البكاء يبكي كطفل لأسباب عاديه تمس مشاعره، أو تلامس جرحاً قديماً آلمه، رغم بكائه لا يزال صلباً في مواقف الشدة لا يهتز للصدمات، بل يهز الصدمات فينبهها بأنها لن تؤثر فيه ولن يجعلها المستفيد الأوحد بل سيستفيد منها، الصدمات التي مرت أكسبته الصبر والجلد والقوة والحنكة التي يواجه بها تعقيدات الحياة ومشاكلها دون ما أطاله تفكير يستنتج بشكل سريع ويعود لواقعة منتصراً .

عندما مات أبني لم تدمع عيناه، كنا جميعاً نبكي بحرارة فهو الابن الأكبر الذي تعودنا عليه والذي أعددناه ليشاركنا مشاكل وهموم الحياة ويخفف عنا وطأتها عند الكبر، لم يبكي أقسمت ابنتي أن أباها لا يحب أخيها احمد أو بمعنى آخر لم يشعر بالحزن على وفاته رغم كل الحب الذي كان يبديه،  لم ألحظ على زوجي أي شيء سوى أن أول يوم لوفاة احمد كان واجماً لا يتكلم ثم عاد لطبيعته فكان يتحدث معي ومع بناته وبعد أسبوع من هذا الحادث جاءني يمازحني فصرخت في وجهه

  • أين تلك الدموع التي تبديها عندما ترى موقفاً مؤلماً ألم يؤلمك موت ولدك

لم يرد !! أدار وجهه ورحل لعنته ألف مرة وآلاف اللعنات أرسلتها للسماء حين رحل ، ألا يشعر بما نشعر من ألم وضيق وكدر، الهموم التي سقطت على رؤوسنا بسبب وفاة ابننا الوحيد وهو لا يشعر .

لحقت به شددته من ثوبه سألته: أين دموعك؟ أجب، لم يلتفت لم يعرني اهتماماً فتشبثت بثوبه وأخذت ابكي التفت إلي أخيراً وقبلني على رأسي كعادته فحدثته بلسان ثقيل خالطه البكاء ألا تشعر بفقد ابنك، نظر إلي وهز رأسه بمعنى انه يشعر

مر الأسبوع الثاني ولم ألحظ شيء إلا أن كلامه قل لكن ابتسامته الصامتة لم تفارق شفتاه ولا يحب أن ينظر إلى وجوهنا، جاء الأسبوع الثالث وكنا نجلس معه وهو منشغل بكتاب وكنا نـحدثه فيهز رأسه أنه يسمع ما نقول، ثم اسند رأسه إلى الكرسي وأغمض عيناه فرأيت فيه ما لم أره قط وكأنه يذبل .

شغلت عيناي بشيء أخر لكيلا أعكر عليه غفوته التي لم أتعود عليها ولم أرها من قبل .. أردته أن يرتاح أو يريحني من نظراته التي يظن أنها تنسيني ولدي لكن فضولي دفعني أن اذهب إليه فقمت من مكاني ومشيت بتباطؤ ، فكلنا ملأنا الضيق منه بعد وفاة احمد، ولما اقتربت منه بدا شاحب الوجه كسته الصفرة أصابني الرعب وأمسكت يده فإذا بها باردة ، انقبضت أنفاسي وتسارعت يداي إلى وجهه اقلبه وأناديه خالد ، خالد ، فكان رأسه يتأرجح بين كفي كوسادة خفيفة لا تسكنها الروح صرخت بكل صوتي

  • خالد ، خالد

التفت اللي بناتي وتراكضوا ماذا حصل فسقطت عند قديه ابكي وهو لا يشعر بنا تداركت كبرى بناتي الأمر فاتصلت بالإسعاف ورافقناه إلى المستشفى وحينها عرفنا ماذا أصابه .. ضعف عام وانهيار عصبي حاد ، بسبب الحزن الذي لم يرد أن نشعر به في فقد احمد مكث في المستشفى أسبوعان وعاد بعدها إلى منزله غريباً لا يتكلم إلى ما ندر ولا يأكل إلا القليل فهو يمشي لا بل يتحرك كالريشة يحركه الهواء، خيال إنسان ما إن نلتفت عليه نجده يبكي في صمت تفضحه دموعه نحدثه فلا يرد إلا بكلمات أو يهز رأسه ويبتسم ابتسامة صامته . وذات يوم كنت أرافقه إلى الطبيب حذرني بأنه لو بقي على تلك الحالة فسوف ينهار ولا يستطيع أن يستنتج ما سوف يصيبه ولم يختلف ظن ذلك الطبيب كثيراً فبعد يومان اتكأ على نفس الكرسي ومسك نفس الكتاب ثم رفع رأسه وأسنده على كرسيه وأغمض عيناه إلى الأبد مات خالد هماً على ولده وقد اتهمناه انه لم يحزن عليه أبدا أتعرفون ما الكتاب الذي كان يقرأه ، عفواً القصة التي يقرأها، قصه مدرسيه من كتب احمد كان قد ملأ الحواشي بحروف وقليل من النكت والكثير من الشعر وبعض الواجبات التي كان يجب أن يفعلها نعم هي أشبه بمذكرات أو ملاحظات كان يكتبها ابني ويبكيها زوجي فمات الأول وترك كلماته ورحل الثاني وهو يقرأها.

أنا والذكريات..

كانت تجلس هنا باستمرار صغيرة الحجم بفساتينها الصغيرة الأنيقة، تلقيها أمها كل يوم في نفس المكان، فتجلس تصفق بكفيها كلما علا صوت التلفاز بأغنيه تضرب بكعبيها بارتجال غير منتظم وتهمهم بكلمات لا تجيد نطقها، تزحف وهي تمسك أجزاءً حادة تجرحني، اشعر بالألم وهي تستمتع بألمي حين ترى ذلك الخط يُرسم على الخشب ويشوهه، لا أنسي يوم وجدت احمر الشفاه ملقى على الأرض كيف فعلت فعلاماته الحمراء شوهتني من الأرض وعلى امتداد يداها الصغيرتان .

أما شقيقها لا يعبث فيني كثيراً إلا في أوقات نادرة لكنه يقوم بفعل يزعجني، يصفق الأبواب بقوة فترتج جدراني ألا يعلم هذا الطفل العنيف لا أني قديم أَقدم من أسرته كلها، والده الغبي كان يفعل نفس الفعل في صغره لكني كنت في ذلك لوقت احمل الكثير من القوة وأستطيع التحمل أما الآن اشعر بأرجائي جميعها تهتز حين يصفق الأبواب، له تصرفات أخرى غبية لا يفعلها باستمرار كأن يحفر ثقباً في جدراني أو أن يركلني بالكره بعنف وبحركات متتالية حتى اشعر بالترنح.

الوحيدة التي احمل لها ذكريات طيبه هي أمهم ،لم ارها وهي صغيرة، جاءت بعد أن تزوجها والدهم، منذ وصلت كانت حانيه، تتحرك في داخلي باستمرار إلى أنها تتحرك برفق ورغم كثرة مشاغلها لا تهملني وتهتم بي كثيراً خصوصاً بنظافتي وأناقتي، فتلمعني وتجملني وتزينني باستمرار، وُجدت لتشعرني بالراحة فزوجها الذي لا يكف عن الطرق والقطع في ورشته التي هي جزءٌ مني يسبب لي الكثير من الأذى وحين يعطب شيء فيّ يتكاسل ويتلكأ ولا يصلحه وحتى لو أصلحه لا يفعل ذلك بعناية كافية، بل ليسكت زوجته التي تلح عليه ليصلحني.

رغم كل ما تفعله هذه الأسرة من ازعاج وكل ما تتسبب فيه من خراب وعطب في اركاني إلا أني كنت اريدهم أن يبقوا معي، بمجرد أني احتويهم اشعر بالدفء، وجودهم واصواتهم وحركتهم تعطيني الأمل والشعور بأني اصلح للحياة ولم يحن وقت موتي، لم يمنحوني تلك الحياة الدائمة التي كنت أتمنى، في يوم من الأيام جهزوا حقائبهم، فقط حقائبهم، ظننت أنهم سيمكثون في الخارج يومين أو ثلاثة أو أسبوع على اكثر تقدير أحصل خلالها على الراحة التي اريد، الأيام طالت ولم يعودوا، شعرت بالسكون يلفني والصمت المميت يحيط بي من كل مكان، طالت الفترة فبدأت اشعر بتلك الحشرات الصغيرة تتحرك في داخلي، تلك الحشرات التي تكاد اصواتها لا تسمع تبحث عن الشقوق لتعيش فيها، تنخر عظامي بأنيابها الحادة، ورغم ذلك لم اتضايق كثيراً فقد بدأت اشعر بالأشياء تتحرك، رغم انتشار الغبار لم أشعر بالقذارة فلا زلت نظيفاً.

الأيام مرت ولم يعودوا، لا نور يضاء ولا كعبٌ صغيرةٌ تضربني ولا طفل اهوج يصفق ابوابي ولا رجل ارعن يتسلى حين يقطعني بآلاته الغريبة، بقيت هكذا حتى مر طفل والقى حجر فنكسر زجاج أحد نوافذي كأنه فقأ عيني حينها، شعرت برعشة من البرد تلفح ضلوعي، بعدها مر طفل آخر والقى حجر كسر نافذة اخر وتوالت الأحجار، ثم بدأت اشعر بهم يتسللون داخلي، اعرف انهم لا يأتوا لكي يضعوا أكاليل الزهور، في احد المرات تسلل متعاطي للمخدرات مكث فيني أربعة أيام، كان لا يكلف نفسه أن يذهب للحمام لقضاء حاجته، يفعلها في أي زاوية قريبة منه ، كنت اريد أن اصرخ في وجهه “أيها القذر” لكن لا جدوى، أحياناً يتسلل بعض العشاق أو بعض الأطفال، الآن اشعر بمدى قذارتي “أنا قذر” منذ ان حملت تلك السيدة الجميلة حقائبها هي وزوجها وأطفالها وخرجوا، لم اشعر النظافة، ابكي مما انا فيه، كل شيء مهمل ومهشم ، حتى ذلك الغبي الذي كان يصلحنِ بتثاقل أصبحت اشتاق إليه على الأقل كان يهتم بي حين أصاب بحجر، ويا ليت تلك الصغيرة تعود وتضرب بكعبيها لتوقظني كل صباح، سأهديها احمر شفاه جديد لكي ترسم تلك الخطوط على ارضي وجدراني وكي اسمع صوت أمها وهي تصرخ بها وتأتي لتنظفي بلطف.

مات الأمل مع مرور الأيام ولم تتكسر نوافذي فقط، ابوابي تكسرت وأكثر من جدار، وأصبح الكثيرون يمرون وينظرون لي باشمئزاز وخوف وريبة، لا انتظر الآن إلا أن يلقي فيني أحدهم عود ثقاب ليكتب شهادة وفاتي

مساء الخير عزيزتي ..

مساء الخير عزيزتي: الرحيل هو الرحيل، أما أسبابه فتتوزع في اتجاهات مختلفة، لا أقول هذا الكلام لأبرر لنفسي أي تصرف لكني أقوله لكيلا تجهدي نفسك في تبرير أمور حدثت، الرجل يا عزيزتي يشعر كما تشعر المرأة حين يتغير المزاج ويتغير الجسد،  هناك لغة نخفيها دوماً عن من نحب، لكنه يشعر بها، لغة لا تُنطق، يشعر بها المحبوب، حين تتغير النظرات، وحين تختفي الأهمية، وحين تتغير رائحة الهوى، الجسد حين يقترب ممن يحب يكون منتشياً، وحين يقترب ممن يخاف ينكمش، حين يجد من يحب يتهيأ لاستقباله، وهذا الشعور الذي فقدته منذ فترة ليست بالقصيرة.

كنت اتابع التغير الذي يحدث في صمت، وأتتبع المواقف، وصلت لبعض التفسيرات، وتركتها على الهامش، كنت أعرف أني سأعود للهامش لأنقب فيه، فمرحلة الرحيل عند الأحبة يا عزيزتي لا تحدث بين يوم وليلة، بل تمر بمراحل، لذا لم أستعجل، رأيت المراحل كلها، وفي النهاية أردت أن اختصر لكِ الوقتَ والجهد، فاختلقت المواقف التي تريدين لكي ترحلي.

كوني في سلام ولا تفكري كثيراً، فأنا في عزلتي التي أحبها، يصاحبني فنجاني وأقلامي وتلك الأفكار المجنونة التي تعرفين، سأنسج منها أشياء كثيرة، اشباحٌ وأطياف وقصص، سأكتب سأجعل للأوراق الرخيصة قيمة، ستقرئينها لا شك كما قرأت تفاصيل يدكِ عينيكِ، الريبة، الجفول، رسائل كتبت على جسد كنت اقرأها بوضوح، الآن لن اقرأ شيئاً من تفاصيلك، فالتفاصيل تكمن فيها الشياطين التي تخلق الأعذار الغريبة والمستفزة.

حصار السياسة ..

تحاصرنا السياسية في كل مكان، تخنقنا، وكان يجدر بالحكومات الخليجية أن لا تقحم الشعوب في السياسة لأنهم لا يمارسون أي دور سياسي، لا يمارسون ما هو اقل من ذلك في تشكيل مؤسسات مجتمعية يكون لها دور فاعل، فلا توجد هيئات ولا نقابات في دول الخليج، ولا منظمات حقوقية مستقلة .

كل شيء يدخل تحت مظلة الدول، كل شيء يتم ترتيبه ليكون شكل مؤسسة دون أن تقوم تلك المؤسسة المجتمعية بدورها الحقيقي، في احسن الأحوال تتجنب بعض المؤسسات التي تحمل شيء من الاستقلالية أي صدام مع الدولة، تسير في خط مستقيم لا يتقاطع ابداً مع السلطة ولا يعارضها .

خلاصة القول، نحن الخليجيون، الشعوب الخليجية، ما دمنا لا نمارس اعمال سياسية ، فلماذا يتم اقحامنا في أمور السياسة؟ لتأخذوا السياسة حيث تريدون، واتركونا نبني ما يربطنا دون تدخل .

لحظة سكون …

جميل هي فترات السكون التي يشعر بها الانسان عند انقطاعه عمن حوله وانعزاله عن العالم المحيط.. ليعيد اكتشاف ذاته .. أو يترك لنفسه العنان .. لتعبث بذكرياته.

كلاكيت ثاني مرة ..

جلس بجوارها ورغم أنه لم يسألها، لكنها شعرت بسؤاله : لماذا تبكين .

هناك شيء يتحرك في نفسي يؤلمني، أحدهم استطاع أن ينتزع مني السعادة، كنت أظن أنه السعادة ذاتها، ظننت أنه يشعر بي .

عادت للبكاء من جديد ..

ثم صرخت ، كنت أحبه بجنون ، لكنه رحل .

كان ينظر إليها ودت لو يسألها: هل كان يحبك بجنون كما كنت أنتِ تحبينه ؟

أجابت دون أن يطرح السؤال: الرحيل يدمر كل التوقعات، ويقتل الأمل، الرحيل يجعلني أقسم أني أحبه أكثر من السابق، هل تعرف معنى الرحيل؟ اظن أن الرجال لا يعرفون ما الذي يصنعه الرحيل في قلب امرأة، لا يعرفون أن الحب حين يسكن في قلب النساء لا يترك مجالاً لغيره، فترغب أن تضع الرجل في كل ارجائها وهذا ما فعلته، لقد وضعته في كل أرجائي، لكنه رحل .

أبتسم رغم أن ألمها قد طغى على المحيط .

أنت أيضاً رجل، لا بد أنك دمرت امرأة، ووأدت فيها الشعور بالحياة، أنت رجل تجلس بجواري وتسألني، لماذا أبكي، ارحل عني لا أريد أن أتحدث مع أحد .

سمعها لكنه لم يتحرك، كانت ابتسامته تكبر، وعيناه تتألق أكثر .

نظرت إليه بغضب وقالت: هل تتوقع أن أعتبر جلوسك عندي مواساة، أم تتوقع أن أرتمي في حضنك لتمنحني السكينة، أم أن أقول لك كل اسرار الدموع التي تنزل، أو اطلب منك أن تساعدني، ماذا تريد؟

أبتسم لكنه لم يتكلم ولم يتحرك .

شعرت بوخزة في قلبها، ابتسامته بدأت تطعنها، شعرت أنه يستهزئ بدموعها، قامت ونظرت إليه بغضب ثم صفعته، اندهش من تصرفها لكنه لم يتألم، لم يتحرك من مكانه، ألقت بجسدها بجواره وغطت وجهها بيدها وانخرطت في البكاء، ثم قالت وهي تدفن وجهها بين كفيها: أنا أسفه لا أستطيع التحكم في تصرفاتي .

نظر إليها وأبتسم .

صرخت في وجه لا تبتسم، بدأت تضربه بكل ما أوتيت من قوة ثم هدأت وقالت: أنا آسفه، لكنها بعد ذلك قامت ورحلت دون أن تنظر إليه .

الحياة رحلت معها، لم يؤلمه رحيلها الآن، بل رحيلها منذ سنه، حين قال لها أنه يحبها، لم تلتفت إليه في ذلك الحين وقالت بهدوء وبمزاج عالي: أنا لا أناسبك، نظرت إليه بعدها وابتسمت وهو يحترق، لم تشعر بنيرانه ولم تعرف ما الذي فعلته حين أدارت له ظهرها ورحلت، الآن لم يأتي ليشمت ، بل هي من طلبت منه الحضور، تحدثت واشتكت، وهي من فقدت السيطرة على أعصابها، وصفعت شخص بجوارها وضربته، ثم أدارت له ظهرها ورحلت، شتان بين ذلك الرحيل وهذا الرحيل، في السابق تركته أشلاء، وفي الحاضر رحلت وهي تلملم أشلائها .

لم يتحدث لأنه يعرف أن الصمت كان أفضل من الحديث، يعرف أنها ستقول له أنها تتألم، ويعرف مصدر ذلك الألم، فمن منحها ألم الحاضر هو من منحها الهدوء في السابق ليدير لها ظهره ويرحل .

الصمت كان في المرة الأولى مؤلم ، وافي المرة الثانية أيضاً مؤلم، لكنه يعرف أن ما وصلت إليه لن يمنحه قلبها ولو منحها قلبه من جديد، فقلبها أصبح عند شخص آخر سيطارده ويبحث عن أي شيء يخصه، سيزورها في أحلامها ويقظتها، وسيحتل كل ذكرياتها .

على الرصيف ..

    يشغلني النظر للمارة في الشوارع والتأمل فيهم كلاٌ على حدى، أتمنى أن اكتب شيئاً ذا قيمة في هذا الجانب، تلك المعاناة التي تتجسد في طفل يرجوا المارة أن يعطوه شيئا، أمور كثيرة تحدث على ارصفة الطرقات تشغلني كلما جلست في مكان عام أتأمل المارة .

انفجار لحظة .. 

نظرت له باستغراب، ومن حقها أن تنظر له بهذا الشكل، فعندما تخبر امرأة أنك لا تحبها لا تتوقع أن تنظر لك بنظرة الرضا، حين كانت تجلس بجواره قبل أن تسأله، كانت تشعر أنها الإنسانة الوحيدة في حياته دون ادنى شك في ذلك، لكنها الآن تحمل كل التساؤلات وتنقلها إليه بتلك النظرة الغريبة التي تحمل الاستغراب والرجاء والدموع، بل تتجاوز ذلك وتسأل: لماذا؟

لماذا لا تحبني؟ كانت تنتظر الإجابة، رغم أنها لم تطرح عليه السؤال من الأساس، لكنها كانت تتوقع أن يتحدث عن السبب الذي لا يجعله يحمل لها مشاعر الحب ولا يبادها العواطف في هذه اللحظة التي توقعت أن تكون نقطة محورية في علاقتهما، اخبرها بأنه لا يحبها وصمت، كان يعرف تلك الأسئلة التي تريد أن تسأله إياها، ويرى مشهد الدموع في عينيها، لكنه فضل الصمت .

الصمت، هو الحيرة التي أرسلها إليها ، وهي الحيرة التي ألقى فيها بنفسه، فأنعقد لسانه، ولم يستطع الحديث، وهي رغم كل الاستفهامات لم تنطق بكلمة، لم تتجرأ أن تسأله لماذا؟ شعرت بأنها لا تستق الإجابة، الشخص الوحيد الذي أحبته، لا يريد أن تكون حبيبته، ولا يريد أن يصل معها لما تتمنى، بالفعل لا تستحق الإجابة، وهو أيضاً لا يستحق السؤال .

والسؤال، يكرر نفسه بينهما فهي تسأل في صمت، وهو يجيب في صمت لا يسمع أحدهما الآخر، تريد الإجابة من صنم لا تعرف ما بداخله، وهو يشرح لمساحات الصمت في نفسه كل الأعذار التي احتجزها لهذه اللحظة، وكلاهما بدء يتحاشى النظر للآخر، كلاهما خائف من الكلمة أن تخرج وتفجر الصمت والدموع .

الدموع، شعر بحاجه للدموع، لكنه لا يملك أن يخرجها من نفسه كما يرها تتدفق على خدها ، رغبة كبيرة في البكاء، لا يعرف كيف يخرجها من نفسه، تمنى أن يصرخ، تمنى أن يبكي كطفل، لكنه شعر بالشلل، لسانه لا ينطق ولا يريد أن يحرك أي جزء من جسمه، كأن المحيط المقدس الذي يوجد فيه سيتدمر لو قام بأي حركة أو نطق بكلمة، تجرأ ونظر لها بطرف عينه ، يعرف أنها تنفجر من الداخل لكنه لا يريد أن يخرج ذلك البركان الذي بداخلها .

انفجرت، ولم تقل شيئاً، انفجر داخلها كل الحزن والغضب لكنها حين انفجرت لم تجرأ على طرح سؤال من كلمة واحدة، وقفت، لم تنظر إليه في تلك اللحظة، حملت حقيبتها، وأدارت له ظهرها ورحلت …