دراسات وأبحاث أدبية ..

قراءة في بعض الدراسات التي تنقد وتحلل الأعمال الروائية.

قرأت دراسات في تحليل الروايات وبالتأكيد تتناول هذه الدراسات بناء الرواية، أسلوبها وعناصرها، وتتطرق للكثير من التفاصيل والمقارنات بين العمل الذي تقوم عليه الدراسات وأعمال أخرى مشابهة أو قريبة وتحمل العناصر نفسها، الدراسات التي قرأتها تذكر المدارس التي ينتمي إليها بعض الكتاب كمرجعية، وهذا شيء جيد يُمنهج العمل الروائي ويضع له قوالب متنوعة ومختلفة ومتطورة، وقابلة للتحول في المستقبل.

تتناول الدراسات المكان والزمان والشخصيات والأساليب والتفاصيل واللغة والحبكة، بأسلوب تحليلي دقيق والجيد في هذه الدراسات أنها تتناول الأعمال الأدبية التي بها مضمون قوي وصحيح ككتلة روائية مبنية بشكل سليم، ولا اختلف مع الباحثين في هذه الجوانب، ولا أنكر عملهم، بل أستفيد شخصياً من هذه المواد القيمة، فهي تبين الكثير من الجوانب الخفية في الرواية محل الدراسة وتفكك عناصرها بشكل يثير الإعجاب.

فقط لدي ملاحظات لا تمس الدراسات، وهي تعني بالكاتب وكيفية تشكيله للرواية، فهو إنسان له ثقافة ومرجعيات ولغة، وحين يبدأ السرد تكون الأهمية الأولى هي العمل الذي يشتغل عليه، حبكة الرواية وشخوصها وأحداثها تفرض على الكاتب أن يخرج أحياناً عن السياق الذي أطر فيه الأفكار الأساسية قبل البدء في الكتابة، مثلاً التعاطي مع الزمن يختلف من عمل لآخر، في بعض الأعمال يكون الزمن عنصراً واجب الحضور، وأخرى يكون الزمن فيها مموهاً أو مائعاً، وكذلك المكان أحياناً يكون محيط يحدد موقع الحدث أو القضية وأحياناً أخرى يحمل الكثير من التفاصيل، ويحدد هذه الأهمية العمل نفسه ومدى خدمة تلك العناصر للرواية، فلو افترضنا عملاً أدبياً توثيقي يتناول مرحلة في الحرب العالمية الثانية سيكون الزمان والمكان واضحي المعالم، بعكس لو كان العمل يناقش قضايا اجتماعية، فيخف وضوح الزمن.

كذلك اللغة، فلغة الرواية البسيطة تجعل القراءة تنساب بسلاسة، لكنها تخضع لمعايير واعتبارات، منها مثلاً المجتمع الذي يعيش فيه الكاتب ويريد أن يوصل فكرته له، عليه أن يجعل اللغة سلسة بعيدة عن التقعير والكلمات الغير مستخدمة والمصطلحات الغريبة، ولو اضطر الكاتب لاستخدامها عليه أن يضع لها تفسيراً، كذلك تخضع اللغة لدرجة إجادة الكاتب للغة المستخدمة، وتخضع أيضاً لأسلوبه هو شخصياً، هل هو سلس أم عميق أو مبتذل، الرواية تعكس شيئاً من الكاتب حتى لو أراد أن يخفيه، واستخدام اللغة مهم في الرواية؛ لأنه الأساس الذي ينقل من خلاله الكاتب أفكاره للقارئ فحين تكون اللغة ضعيفة لن تصل الفكرة وحين تكون اللغة مبتذلة يصبح العمل مملاً، التوازن يضعه الكاتب بناءً على تصوراته الشخصية فيما يرى أنه يخدم العمل.

على هوامش الرواية ..

لا توجد هوامش مكتوبة في الرواية إلا لتفسير أمر أو شرح معنى لكلمة، فالرواية لا تعتمد على الهوامش، لكن حين تدقق النظر في هذه المسألة تجد أن كل شخصية هامشية في الرواية هي هامش للرواية، وكل فكرة جانبية هامش أيضاً فهوامش الرواية غير مكتوبة على حواشيها، بل متضمنة داخل الرواية يبين الكاتب من خلالها نقطة واحدة، أو يأصَّل فكرة.

الرواية نسيج يبدأ من أصغر نقطة ويسير بشكل منتظم حتى يكتمل، فتلك الأمور التي أسميها هوامش غير مكتوبة على الأطراف تدخل ضمن نسيج الرواية لتكمله أو تزينه، فيستخدمها الكاتب بشكل غير منتظم في الرواية ليكمل الصورة.

لماذا يعزف المجتمع عن القراءة ؟ ..

علينا أن نطرح السؤال المهم، لماذا يعزف المجتمع عن القراءة؟ وعلينا أيضاً أن نبحث خلف هذا السؤال عن الأسباب الحقيقية التي تجعل مجتمعاً ما يعزف عن القراءة بشكل لافت للنظر، رغم وجود الكثير من المؤلفات التي يمكنه أن يستفيد منها.

لا أحد يملك الإجابة كاملة ولكل شخص اجتهاده في تخمين الأسباب التي تؤثر في رغبة المجتمع في القراءة والاطلاع وكسب المعرفة أو التسلية والاستمتاع فالقراءة ليست علماً فقط، فهي تحمل في ثناياها الكثير من المتعة والتشويق.

أحياناً لا توجد هناك قناعة لدى القارئ بجودة المؤلفات، وأحياناً لا تكون هناك قناعة لديه بالمؤلفين، وهذا السبب ربما لا يتناسب مع مجتمعنا فهناك الكثير من الأقلام الممتازة في كل المجالات، وأظن أن هناك سبب أكبر في هذا الأمر وهو أن الوسط الثقافي معزول أو بعيد عن المجتمع الذي ينتمي إليه، لذا لا يوجد تأثير ثقافي يمس المجتمع بشكل مباشر، ويثير حفيظته لكي يقرأ، هذه النقطة لها وجود قوي في مجتمعنا، لكنها ليست النقطة الوحيدة التي تسبب العزوف عن القراءة.

لا توجد مؤسسات ثقافية لدينا تروج للكتب بشكل مؤثر، وهذا ما يجعل الكاتب يجتهد ويروج عمله بنفسه، حين يكون العمل مؤسسياً تكون النتائج أفضل بكثير، فالمؤسسات الإعلامية والثقافية لها جمهورها من الأساس، كما أنها تنقب في الكتاب، وتبين مزاياه التي لا ينتبه لها القارئ من الوهلة الأولى، وهنا يبرز دور النقد؛ لأنه عملية تقييم فني ومهني لأي كتاب يصدر، فيعطينا دافعاً إما لقراءته أو تركه.

الندوات والمقابلات والحوارات التي يجريها المثقفون لها دور كبير في تشجيع المجتمع على القراءة، وتساعد على انتشار الأعمال الجيدة، والندوات والحوارات والمقابلات يجب أن تشمل كل وسائل الإعلام المرئية والمقروءة ووسائل التواصل الاجتماعي وهناك قصور كبير في هذا الجانب.

دور النشر لها أهمية ورسالتها أكبر من أن تطبع الكتب وتوزعها، فهي التي تتبنى الأقلام، وتنتج المؤلفين وتحرص على جودة المخرجات، وحين يقتصر عملها على الطباعة والتسويق فقط، تفقد قيمتها ويصبح تأثير مخرجاتها من الكتب على القارئ لا شيء.

هناك أسباب أخرى لدى المجتمع نفسه تساعده على العزوف عن القراءة والاطلاع، فالمجتمع حين تكون لديه مغريات كثيرة وميسرة، لا يلتفت للكتاب، وأخص هنا جيل الشباب الذي يساعد الترف في تشكيل هويته في الفترة الحالية، الكثير من الملهيات دخل ضمن نمط حياة الجيل الحالي، وهذه النقطة نتجت عن ضعف دور الأسرة والمؤسسات التربوية والثقافية، ترف المجتمع المادي يجب أن تلازمه الثقافة بدلاً عن اللهو.

أيضاً يوجد قياس خاطئ لنسبة القراءة، فالكل يقيس نسبة القراءة من نسبة مبيعات الكتب، ويتناسون أن الكثير من الكتب تنتشر في الإنترنت بشكل مجاني ولها جمهورها الذي يقرأها، وهذه الفئة لا تدخل ضمن الإحصائيات، ولو نظرنا إلى المواقع التي تضع الكتب المجانية كجوجل درايف ومواقع أخرى سنجد أن نسبة المشاهدات جيدة، صحيح أنها لا تقارن بنسبة مشاهدة الأفلام ولا الاستماع للأغاني، لكنها جيدة على العموم.

من وجهة نظري يجب أن يقتحم المثقفون المجتمع، لا أن ينتظروا أن يلتفت لهم المجتمع دون أي جهد منهم، الرغبة في المعرفة لا تتولد حين ينزوي العلم في أماكن مغلقة، يجب أن يكون الوسط الثقافي منفتحاً على المجتمع يسعى بكل الوسائل للتأثير فيه، وبناء هويته الثقافية ودفعه لما هو مفيد.

الرواية .. ما تفرضه وما تنفيه ..

تحكمنا النصوص والقضايا التي نطرحها في الرواية، وليس صحيحاً أننا نتحكم في الرواية بشكل تام كما يقال، النص الأدبي محكوم بفكرة أو طرح معين، أو تحدده القضية أو الحدث أو الشخصية التي يناقشها الكاتب في روايته، فيضع إطاراً فكرياً محدداً لتلك الرواية، ومن الصحيح أن الكاتب يقيد نفسه بنفسه، لكن ذلك التقييد يكون مفيداً في أحيان كثيرة، خصوصاً إذا كانت القضايا التي يناقشها ذات طابع خاص، فلو شط وترك فكره يتجول دون إطار محدد سيخرج لا شك عن سياق الرواية، ولن يحقق تلك السلاسة التي تجعل القارئ يسترسل في الحدث بشكل مريح.

أحيانا تحكمنا الفكرة، مثلاً لو أن القضية التي تطرحها محلية لا يمكنك أن تتجاوز القيم والأعراف الموجودة في المجتمع ولا معاير الأخلاق التي تحدد صيغة الخطاب الموجه للقارئ بحيث تخاطب الموروث الثقافي لدى ذلك المجتمع دون تجاوزه أو إدخال أي قيم شاذة، وهذا لا يعني أننا لا نطرح الأفكار الجديدة، على العكس يجب أن تطرح، لكن بالصيغة التي تجعلها مقروءة ومؤثرة، ولا تكون مصدر شذوذ في العمل، هذا بعكس أن نكتب رواية خيالية، فحين ندخل الخيال في العمل، نفتح أمامنا كل مساحات الحرية في معالجة الأمور الحساسة والعلاقات، أو أي شيء بشرط أن ما نكتبه يخدم العمل ولا يشوهه.

أنا أدعي أن الكاتب هو رب الرواية، يحيي شخصياتها ويميتهم، وهو من ينفي ويثبت ويُبعد ويُقرب كل ما يريد، لكن يقيني في هذا الأمر يختلف اختلاف كلي عما ادعيه ، فالرواية حين نبدأ فيها ننطلق بسرعة فمعظم الأحداث والشخصيات تكون مرسومة في عقولنا، نسترسل في البداية، ننسق أحداثه ونرتبها ونجمع بين الشخصيات، ونفتعل القضايا في الوسط، وهنا تكمن المشكلة فالكاتب بعد أن ينجز البدايات يظن أنه متحكم تماماً في الرواية، إلا أنها تبدأ من حينها تتحكم به، فلا يستطيع أن يتجاوز الشخصيات التي رسمها والأطر التي وضعها، ولا يستطيع أن يتخطى شخصية مؤثرة مثلاً، دون أن يضع أسباباً كافية ومقنعة، ولنفرض أن هناك شخصية مؤثرة يريد الكاتب أن يبعدها عن روايته، لا يمكنه أن يتجاهل ذكرها دون سبب يقنع القارئ، ولو أهملها دون سبب يكون هناك خلل في بناء الرواية والحبكة.

لذا فإن الرواية تتحكم فينا كما نتحكم فيها، وهذا التوازن الذي يحدث يضع النص الروائي في حدود العقل والمنطق، كما يحق للكاتب أن يؤلف كل شيء في الرواية يكون الحدث في الرواية محسوباً بدقة بعد أن نتجاوز البدايات، ويقيدنا في الكثير من الجوانب.

 خلق أحداث من واقع مختلف عن الرواية يجعل بناء الرواية مختلاً أو مهزوزاً، وفي أغلب الأحيان يعتمد الكاتب على إقناع القارئ بالحدث، حين يقحم قضية أو شخصية جديدة في الرواية لم تكن موجودة، ولم يضع لها مؤشرات، فالأحداث تبنى بناءً على شخصيات الرواية وعواملها النفسية، والمؤثرات التي تقع عليها.

الرواية التي تستقي أحداثها من قصص حقيقية يجب ألا يضع الكاتب فيها أي حدث مفتعل، أو يقحم فيها شخصية لا تناسبها، وعلى الكاتب أن يستخدم مهارته في صياغة الرواية ليضفي عليها واقعاً جمالياً، أحياناً يحتاج الكاتب أن يكثف الشرح في نقطة معينة لكي يوصل للقارئ الأسباب أو الدوافع التي حركت الأحداث أو أن يصف بتركيز مشاعر الشخصيات لتحقيق القيمة المعنوية في ذهن القارئ لذلك الحدث ومدى تأثيره في المجتمع.

كلمة ..


ليست الكلمات مجرد حروف، صلتها مع النفس أكبر، تعبير عما نشعر به وما يجول في خواطرنا، نكتبها لكي: نعيش لحظه ،نمجد لحظة ،نخلق لحظة .. ونعود بها لأشواقنا لنعيش معها، في النهاية يقولون إنها كلمة ..
وهي كل التعابير والمشاعر والألم ، هي رسول .. هي سهم ، هي أنا وأنت ..

النقد البناء ..

تستطيع أن تكتب أية فكرة تخطر على بالك، لكن حين تنشرها بشكل عام ستحتفظ بجزئية بسيطة فقط، وتفقد حقوقاً أخرى، تحتفظ بحقك ككاتب للفكرة، وتمنح الآخرين حق القراءة والنقد، إذا كنت لا تستطيع تحمل هذا، عليك أن تحتفظ بما تكتب في أحد أدراج مكتبك.

 النقد عملية تصحيح وله أساليب كثيرة ومدارس ونظريات وفلسفة، فكرته في الأساس بسيطة جداً، وهو إظهار جوانب الضعف أو الخطأ في أي عمل، ربما يتطور النقد ليصبح فكراً، فيبين جوانب الضعف، ويضع تصوراً لتصحيح الخطأ، وفي النهاية يكون النقد قد حقق هدفه الرئيسي وهو تصور عمل أفضل في المستقبل.

 الكثير من الكتاب والأدباء يعانون الانتقاد، فكما ينحرف بعض الكتاب عن المسار الصحيح، ينحرف بعض النقاد أيضاً، وتصبح أقلامهم معاول هدماً وتجريحاً، وربما تتحول أقلامهم من نقد العمل إلى نقد الكاتب في شخصه، هذا الشيء لا يفقد الأعمال الجميلة بريقها ولا يقتلها.

للقارئ وجهة نظر، ويمكنه أن يقارن، فإن كان النقد صحيحاً سيجد صدى لدى لديه، وإن كان خاطئاً سيتجاوزه دون اهتمام، أما مسألة التطرق للأمور الشخصية في عملية النقد، فهذا خطأ بحت يتعمده بعض الناقد، فلا يعنينا الجانب الشخصي للكاتب في شيء، الذي يعنينا هو ما يطرحه على الساحة من أعمال وقيمتها الفكرية.

 على الكاتب أن يتقبل النقد بصدر رحب، ويمكنه أن يأخذ بما يقوله الناقد أو يتجاهله، وفي كلتا الحالتين له حق النقاش والرد، وليس من حقه أن يرفض النقد، فالنقد مرحلة مهمة جداً من مراحل التطور الفكري، وعندما يقوم نقاش بين طرفين، ينحاز الجمهور للكاتب أو الناقد، أو ينقسم فيؤيد بعضهم الكاتب والبعض الآخر يؤيد الناقد، وهناك فئة من الجمهور ربما تبني أفكار جديدة، وتخرج بتصورات أفضل، وعملية الأخذ والرد هي حراك فكري له نتائج إيجابية تنعكس على الساحة الفكرية والثقافية في المجتمع.

 غياب النقد عن الساحة الأدبية يمكننا أن نعتبره كارثة فحين يغيب النقد عن الساحة الأدبية لا تمحص الأعمال التي تطرح ولا تناقش ولا يُرد على الأفكار الغريبة والشاذة، وستعاني الساحة الأدبية من الفوضى، القاعدة الصحيحة تقول إن الشيء يتميز بنقيضه، فالكاتب هو الشيء والناقد هو النقيض، فإن كان العمل الأدبي قوياً يميزه النقد، وإن كان ضعيفاً سيقتله، الفكرة القوية تبقى قوية وإن انتقدت، والضعيفة لا تتحمل النقد، ولا يمكنها الصمود.

 لنعود إلى الأساسيات، الأساس أن يكون هناك عمل أدبي، بعد ذلك يأتي النقد ليبين جوانب الضعف والخطأ في العمل، ثم مرحلة الرد والنقاش، وبعدها تتكون الصورة كاملة لدى المتابعين، ويُحْكَم على العمل بالنجاح أو الفشل، أو تقيمه وتصنيفه (ضعيف، جيد، جيد جداً، ممتاز) وعلى هذا يكون النقد هو المرحلة الأهم في تقيم أي عمل أدبي على الساحة.

شيء من الهدوء …

عندما يشعر الإنسان بالهدوء يتغلغل إلى نفسه، تصفوا أفكاره من الشوائب، ويتخلص عقله من الضوضاء، فيسمع صدى أفكاره تتردد في رأسه وتتصادم، تخرج أفكار جديدة، وتموت أخرى، يرى صور الذكريات، وهي تغذي الخيالات والتأملات، وتملأ روحه دون ملل ولا إزعاج، فوضى الذكريات والصور المبتورة التي نرسمها ونغذيها في الخيال لكي تكبر وتتضح.

الحياة، تحتاج إلى الهدوء، لا لتستكين فقط، بل لتستقر، الروح استقرارها الهدوء، والعقل استقراره الفكر، والخيال استقراره الصور والذكريات، والنفس آهٍ من النفس التي تقلبنا بين الرغبات، والأهواء.

يعجبني الهدوء أشعر به وهو يقيد نفسي فلا تجمح لأهوائها، بل يجعلها تحت سيطرة العقل، فيتحكم بها في فترة السكينة كيف يشاء، ويحركها فتحفزه تارة، وتستفزه تارة أخرى، لكنها لا تخرج عن سيطرته.

قهوة …

قهوتي البدايات.

قهوتي النهايات.

قهوتي … تشرب الدقائق …

وأشربها … دقائق …

تعلمني … طعم الحياة …

شكرا قهوتي …

نحن هكذا ..

العقل هو الحافظ لكل شيء يمر بنا، ونحن نجتر ما هو موجودٌ فيه، نعبث بتلك المعلومات التي وضعناها في رؤوسنا، نقرأها، نظيف إليها، نعيد ترتيبها كلما وجدنا لها مكاناً أفضل، ونبحث عن الجديد، ننقب في بطون الكتب، في عقول البشر، نستفز الأقلام والمشاعر، لنحصل على ما نستطيع أن نأخذه، لنضعها مع ما قرأنا وما عرفنا وما درسنا وما اكتسبنا، ورغم ذلك نكتشف أننا نريد أن نعرف أكثر، ونحصل على المزيد. 

النقد من منظور إلهي ..

أنهيت قراءة كتاب “موت الناقد لـ رونان ماكدونالد” منذ فترة طويلة وكتبت هذه السطور لكني لم انشرها سابقاً، ولن أعلق كثيراً فمادة الكتاب جيدة بها الكثير من المحاور المهمة التي سيستفيد منها من يقرأه، يتناول نظريات عدة منها نظرية موت الناقد عبر مراحل مختلفة من خلال كُتاب ونُقاد وأكاديميين بين ضفتي الأطلسي، إنجلترا والولايات المتحدة، وينقل الكثير من الآراء لكل مرحلة مر بها الأدب والجمال والثقافة منذ بداية القرن الماضي حتى نهايته، يتعاطى مع النقد بشكل موضوعي في الكثير من المواقع، إلا أنه عاد في نهاية الكتاب لينصب الناقد إله للأدب واللغة والجمال.

نقد تقويمي نقد تحليلي نقد فني إلخ.. ما لم يتطرق له الكاتب هو تعالي النقاد وبيع أقلامهم ومحاباة الأسماء الكبيرة التي يخشون المساس بها، وهذا الأسباب أثرت أكثر من غيرها، والتي دعت المجتمعات الثقافية والأكاديمية والشعبية لقتل الناقد كصورة من صور الانتقام “من وجهة نظري، لا أرفض منظومة النقد التي تدعو للارتقاء بالعمل الأدبي لكني اقبل أن ينصب الكاتب نفسه إلهاً في الرواية، فيخلق ما يريد ويقتل من يريد ويفعل ما يشاء لكي يعطي العمل قيمة إضافية، يصنع الأحداث ويكرس المشاعر، ويركز النظر على نقاط يريدها أن تصل للمتلقي من خلال مقدرته الإلهية المتواصلة في العمل وجهده، وحين يتأله الناقد يتعامل مع المخرجات الأدبية تعامل الأب المسيطر والإله لحاكم.

حين ينصب الكاتب نفسه إلهاً يُمكنه ذلك من الوصول لهدفه، وحين ينصب الناقد نفسه إلهاً يخسف بكل ما يراه غير مناسب من منظوره الشخصي، ويغفل أن العمل الأدبي مر بمراحل، واحتاج إلى مجهود وعمل طويل متواصل لكي يخرج إلى النور، بينما يضع الناقد نقده في جلسة في مقهى لا تتجاوز الساعة، ليموت الناقد أو يعيش لا يهم، المهم أن تُراجع المهام النقدية كما تراجع الأعمال الأدبية، وأن توضع لها معايير كما وضع للأدب معايير وشروط.

“الناقد كما الأستاذ يوجه والتوجيه لا يحتاج إلى إبداع بقدر ما يحتاج إلى مهارة ومعرفة وشعور وإدراك”

توازنات ..

الإنسان لا يُمنح الفرح، بل يصنعه ويعمل كل ما يسره وحين تأتي المصائب، فإنها تخترق الظروف المحيطة التي خلقها ليحصل على السعادة.

الأحزان أو المصائب أو الصدمات إعادة بناء للإنسان لينظر في شؤونه من زاوية مختلفة، فالبناء الذي ننشئه ليس بالضرورة صحيحاً بمعنى أن سعادتنا التي نبنيها تقوم أحياناً على تعاسة الآخرين، أو تتقاطع مع أحلامهم، ولو حصل إنسان على السعادة كاملة سيحرم منها آخرون لا شك في ذلك.

توازن غريب في الحياة، حين نؤمن بإنسان لدرجة اليقين، نخلص له حتى النهاية، وعندما نكتشف أن ذلك الشخص لم يكن على مستوى ثقتنا تكون الصدمة مضاعفة، هو لم يصنع لنا الصدمة نحن من صدمنا أنفسنا بمنحه ثقة أكبر من حجمه الطبيعي؛ لأننا لم ننظر إلى الجوانب السلبية في شخصيته، فلا يوجد إنسان على وجه الأرض لا يخطئ ولا تعيش الملائكة في ثياب البشر.

كل شيء يهدم يحتاج إعادة بناء وعلينا أن نبني ما يستطيع أن يقاوم أكثر، وأن نؤمن أن الأشياء التي خسرناها قد انتهى دورها في حياتنا، ربما تُخلف الصدمات وبعض الهموم، لكن علينا أن نبدأ من جديد، وننظر في جوانب الأمور المشرقة والمظلمة، ونخلق توازنات تجعلنا قادرين أن نستمر بأقل الخسائر.

فراغات ..

الفراغات التي تركتها خلفي لا أظن أن الواقع يستطيع أن يملؤها فلا شيء يستطيع أن يثير اهتمامي لأجمع ذكريات جديدة تملأ تلك الفراغات، ولو حاولت أن أملأها لن أجد في الواقع من أضعه فيها، فالفراغات التي تجاهلتها، لا زال بها أشخاص لا محل لهم في واقعي الآن، لكنهم موجودون في نفسي، يحفرون في جوانبها، وأنا أدفن ما استطعت.

أذكر جيدا حين صنعوا تلك الحفر في حياتي، كيف كنت أشعر بخواء في صدري وكأنه بئر لا قرار له، وكانت المسافة بيني وبين القاع لا تقاس، أتذكر أن الفراغ لم يكن في صدري فقط، بل حولي أيضا، يحيطني، يحاصرني، ويكبلني، لكنه تراجع ليصبح ماضياً، وتقلص في صدري ومِن حولي، رغم الوحدة والانعزال.

أعرف أن الفراغ مساحة تائهة، لا يستطيع القلب أن يخرج منها، ولا يستطيع العقل أن يتجاوزها بسهولة، يعيشها القلب ليصطدم بجدرانها، ويتعرف العقل على معنى الضياع، حين يكون شيء واحد يسيطر عليه.

الرواية ..

الرواية تعتمد على الإبداع، لم تكن منهجاً أكاديمياً فهي حكاية وفكر وأساليب أخرى، الجميل منها هو الذي يرفع لذة وشهوة القراءة لدى المتلقي، فإن كانت تحمل قيمة فكرية استطال زمانها وامتد، وإن كانت بسيطة رحلت مع زمانها.

فوق الخمسين ..

سارت بي الحياة لكل مكان، وقابلت آلاف البشر، دون أن أعرف كم سأستمر ولا أدري متى ينتهي مشواري الذي بدأ منذ فترة طويلة، أسير وأدعي أني أتعلم مع أن أغلب الأحداث في حياتي أصبحت مكررة والمتغير الأكبر هي الأماكن والأشخاص، لكن المواقف أغلبها معادة، تواجهنِ مشكلة أحياناً تكون بسيطة وأحياناً معقدة وهي اللحاق بالركب أو مسايرة الزمن الذي أعيش فيه، ورغم شعوري بأني اكتفيت إلا أني يجب أن أعيش واستمر إلى متى لا أدري.

ليس من أحد لا يريد الحياة، لكن الروتين الذي يتكرر باستمرار يجعلك تتساءل كيف استمر؟ وما الذي يمكنني فعله في هذه المرحلة من العمر؟ أنقل خبرتي مثلاً أم اعتزل البشر، وأتفرغ للمطالعة أو أذهب لأمور أخرى في الحياة، التجارة مثلاً أو أي عمل يستطيع أن يشعرني بأن الحياة يمكنها أن تمنحني المزيد من الخبرة أو المعرفة.

انظر للحياة بتفاؤل، وأحياناً انظر لها نظرة ممل، ثم أعود وادفع نفسي للتفاؤل من جديد، إلا أن نظرة الملل تكبر وتتحول لاحتقار للحياة في بعض الأحيان، وتعود الشمس لتشرق مؤذنه بروتين جديداً يتكرر وبأشخاص حفظنا وجوههم وتصرفاتهم، وبشوارع أصبحنا نتوقع فيها كل شيء قبل حدوثه، فالسيارات لا زالت تمشي على أربع، كـطفل سريع الحبو، وأتوقع أن تكبر وتمشي على عجلتين بدلاً من أربع.

لا يمكنني أن أرى الأشياء خارج نطاق الواقع أو خارج حدوده، لأني لو نظرت إليها بشكل مختلف أنا متأكد أني سأرسم لها شكلاً جميلاً لا يمكنه الحياة في الواقع ولا أن يستمر، فالحياة خليط بين جميل وقبيح، وبين طيب وشرير، وبين غبي وذكي، وبين أناس تتصدر وأناس تعيش في الهامش، وأنا أجد نفسي في الهامش أكثر مما أجدها في الطليعة فالهامش الذي يحتقره الكثيرون يعطيني مساحة شخصية لا أتمتع بها لو أني كنت في الطليعة، مساحة تجعلني أتحدث بصوت عالٍ مع نفسي، وتجعلني انتقل من مكان لآخر، دون أن يعرفني أحد.

كائنات بشرية ..

ما أنا إلا إنسان جمعته الأيام وفرقته، انتشر حين أفرح، وانكمش حين أخاف، لا معنى للشجاعة دون خوف ولا معنى للفرح دون حزن، كل شيء يفسره نقيضه، وأنا بشر، فيني التناقضات، والتساؤلات، وأمامي الحلول، لأختار أحدها، ربما يكون الأصح، أو الأقل صحة، أو ربما أختار الخطأ.

خطأ، أنا خطأ، أنا مخطئ، أنا مذنب، أنا ما أنا؟ بشر، لا أتميز عن غيري، ولا أدعي، ولا أريد أن أتميز، فلا أرغب أن أكون فوق البشر، لكن لا أرضى أن أكون أسفلهم، حتى لا يضعوا أقدامهم فوق رأسي، فأخضع.

إنسان، لهذه الكلمة معنى قوي في قاموس المصطلحات، ليس في الكتب وحدها، بل في نفسي، وأظنها في نفسي أقوى، فالإنسان له تفسير علمي، وآخر منطقي، وآخر فلسفي، وآخر ديني، وهو كل هذه التفاسير مجتمعة، فيه التناقضات، يطمع ويَقنع، يخاف ويغامر، يحب ويكره، وبين كل قيمة ونقيضها شعرة، أفسرها أنا بمنظوري، ويفسرها غيري بمنظوره.

لا نتساوى في شيء غير التكوين الجسدي، لكن في دواخلنا، تختلف أفكارنا، تناقضاتنا، مشاعرنا، رغباتنا، أطماعنا، ونبني كل شيء من خلال ما ترسب في نفوسنا، وما تكدس في ذكرياتنا، نستنتج، نحلل، نخمن، نتوقع، بناءً على تراكم خبراتنا، ورواسب ذكرياتنا، ومخاوفنا.

جميعنا لدينا المشاعر، والرغبات الأطماع نفسها، لكننا نختلف، فأنا أستخدم مشاعري واطماعي ورغباتي بطريقة تعجبني وبأسلوب يخالف استخدام غيري لها، تطغى مشاعر على تصرفاتي، وغيري تطغى على تصرفاته الأطماع، وغيرنا تكتسحه الشهوات، كلنا لدينا الأشياء نفسها في الداخل والخارج تقريبا، لكننا مختلفون في استخدامنا لأنفسنا، اختلاف يصل إلى الصدام.

الاختلاف، هو أساس الحياة، والاتفاق، هو أساس النجاح. ومن ينجح؟ ومن يفشل، هو الإنسان، ذاته، تلك النسخة المكررة، في صور مختلفة، وأحجام مختلفة، ومشاعر مختلفة، كل واحد منهم يحمل صفات البشر، ومعاني الإنسانية السامية لكن تصرفاتهم تختلف ومعايرهم لقياس الأمور متغيرة.