متاهات ..

لا تعرف الحروف دروب المنافي، لكنها تصف التفاصيل بعناية لدرجة أنك تتوه فيها، ولا تستطيع الخروج، فالمنفى ليس طريقاً واحداً، تمشيه وتجتازه بعد فترة، هو تلك الغربة التي تحجبك عن الواقع والحياة، وعن أولئك الذين يدعون أنهم معك والموجودون حقا معك، ويرسلك بعيدا هناك عند الذي ربما نسوا أنهم تركوك في منفى لن تعود منه أبدا.

عليك أن تصف تلك الدروب جيدا فربما، ربما، تجد ذلك الطريق الذي تظن أنه يوصلك لهم، انثر حروفك على خارطة الورق، ومرر أصابعك لترسم مساراتها التي لا تنتهي، ثم أحرق كل أوراقك، واكتب الحروف من جديد، على جدران التيه، وارض المنفى، وعلى غبار الزمن، وتأكد أنها ستبقى في مخيلتك، أنت فقط.

تجلس بين الحاجز والوطن لا تستطيع أن تسكن الأرض، ولا أن تعبر الجدار، فتمشي دون توقف، وتكتب دون شعور، بين جدارٍ وآخر، لا ترى ما خلفه لا لأن الجدار يعزلك، بل لأن نفسك عشقت أن تبقى خلف خيال، خارج الحقيقة.

المنفى وطن الضياع، له من المجهول حظ، ومن الغياب جزء، ومن الرحيل نصيب، ومن التيه دروب، يجمع تلك المعاني التي تزرع الرغبة في البقاء خلف جدار رُسمت عليه الخرائط، ونُثرت فوقها الألغاز، وعليك أن تجمع شتات الحروف، وتتبع الطريق ليوصلك إلى طريق آخر وآخر، ومن جديد عليك أن تضيع في الجدران، وتنثر نفسك في الدروب، وأن تدوس الحروف، وتحرق كل أوراقك.

لا عزاء

لا عزاء ..
إن كان في القلب مساحاتٌ

للبكاء
للدموع
وأفكارٌ للرجوع


لا عزاء
لن ترفع الاقدار عن دربي البلاء


فأنا بين السطور .. حول نفسي ادور..

على خرائط الورق


وأشعل الأقلام
بين أرق وأرق

تنزل من عيني حروف
ومن قلبي حروف
لا تجد السطور
وتبقى تدور .. تدور

إلى .. ميّ

إلى معلمتي تلك السيدة الجليلة التي جعلتني أنزع ثوب الخوف من على وجه الرواية حين سألتني: ماذا تريد أن تفعل في المستقبل؟ حينها كانت الفكرة الأولى تدور في رأسي حول الرواية ولم أستطيع أن اكسر حواجز التردد والرهبة التي خالطت تلك الفكرة الصغيرة فأجبت: أفكر أن أكتب رواية، فقالت: ما الذي تنتظره؟ وكأنها أستشف خوفي من التجربة وهي تقول: مال الذي ستخسره لو فشلت؟ كان هذا السؤال الأخير الذي اخترق كل الحواجز وجعلني أقف أمام نفسي متجرداً وأكرره حتى بدأت.

تلك السيدة الماهرة في قياس كفاءة فريق العمل الذي تديره لم تكسر حواجز التجربة حين كنت اتعلم تحت يديها طرق التدريب وأساليبه، بل استطاعت أن تكشف الجوانب التي لم أجربها وساعدتني أن اتعلم الكثير من المهارات التي لا زلت احتفظ بها رغم المسافة الزمنية البعيدة التي تفصلني الآن عن تلك المرحلة، فأصبح حاجز الخوف من التجربة شيء لا أتطرق إليه فكل عمل جديد اتقبله برضا واجتهد بأن انجزه بالشكل الأفضل دون تردد.

لا اقصد أن اشكر الدكتورة ميّ عيسى علي، على تشجيعها لي في فترة العمل ولا على تواصلها معي كشقيقتي الكبرى، فهي تستحق أكثر من ذلك، بل اقصد أن أوصل معني جعلتني أقتنع به قناعة تامة، أن الأنسان يبني الكثير من الحواجز بينه وبين آماله التي يريد تحقيقها، وهو نفسه قد يكون العقبة الأكبر التي تمنعه من الوصول لتطلعاته التي يصبوا إليها ، تعلمت منها الدرس الذي أعطاني أكبر قيمة في الحياة.

لم أخطط لأكتب هذه السطور فقط كنت أفكر في البدايات وعندها تكرر السؤال الذي جعلني أقف أمام نفسي وأكرره “مال الذي ستخسره لو فشلت؟” والآن أنظر لتلك البداية في عالم الرواية من بعيد وكأنها رحلة غريبه لكنها ممتعة جعلتني الدكتورة ميّ اخطو فيه الخطوة الأولى فزرعت ثلاث روايات في مسيرتي التي أتوقع أن استمر فيها حتى النهاية.

رداء المعصية ..

لدي رسائل لا أستطيع أن أرسلها لأحد فكلهم رحلوا، تلك الوجوه التي عشتها وعايشتها قد اختفت منذ زمنٍ بعيد، لكنها لم تتلاشَ من مخيلتي، ولم تهدأ الفوضى التي خلفها الرحيل في صدري، فتلك الوجوه لا زالت تدور بين أفكاري المبعثرة وأوراقي المطوية، تنقب في الذكريات، وتنبش الماضي وتنظر إليّ في كل وقت، تتهمني، نظراتها تتهمني، وتذكرني بأخطائي التي ارتكبتها، تلك الأخطاء التي لم أقصدها، وقعت، ودمرت المحيطين ودمرتني.

أنا، ذنبٌ نبت في شكل بشر، ألبسته الحياة رداء المعصية، فتزين به وتأنق، وتلك الوجوه الراحلة قد أغرتها الذنوب، فجاءت إليّ تبحث عن الخطيئة، وحين وقعت فيها، اكتشفت حقيقتها فرحلت لمجهولها، وبقيت أنا في ردائي المتشح بالذنوب.

كيف لي أن ألقيه من على كتفي! وقد ثقل بمن علقوا فيه وتعلقوا به، وعليّ أن أحملهم وذنوبي، وأسير حتى النهاية، فلولاي لم يخطئوا ولم يعرفوا المعصية، أنا الذنبُ المرير الذي لطخهم وشوههم وعراهم من بشريتهم الطاهرة النقية، وألقى بهم في متون الرذيلة، أنا ذنبُ من أخطأ ومن لم يخطئ، ذنبُ القادمين والراحلين.

دعوني مع ذنوبي فإني رغم بغضي لها أرافقها فما لكم لا تتركوني؟ أيتها الأطياف أيتها الوجوه أيتها الذكريات أيها الماضي، أيها الطاهرون، أقر لكم بذنوبي وطهركم فرحلوا عني، كيف تجلسون معي وأنا أمثل الخطيئة، اتركوني أغرق في وحلي وحيداً .

إن استطعتِ

أن تعودي إلي من جديد ليس معناه أن نعود كما كنا، فبين رحيلك وعودتك تقف فجوة المشاعر التي حفرها الغياب في نفسي، ربما أريد أن أقفز فوقها لكي أعود أنا ذلك اللطيف الذي تعرفين، لكني لم أتمكن حتى في خيالي أن أفعل ذلك دون أن أقف عند اللحظة التي دمرت فيها كلماتك المشهد الأخير، وتركتني أهوي في الفراغ الذي وجدته في كل المسافات، وأسأل نفسي عن الحقيقية كيف تحولت إلى وهم مر عبر الزمن لتلقيني في الهاوية التي أردتِ أن أكون فيها وحدي، وأنتِ توجهين تلك السهام المسمومة إلى أذني لتخترق كل ذكرياتك التي احتفظ بها وتحرقينها.

أنا أموت عندما أمنع نفسي، وعندما أشعر بالحنين، وحين أسمع صوتك، الشوق الذي يعصف بي يجعلني أقترب كثيراً حتى أشعر أن كل شيءٍ مؤلم قد اختفى، ثم ينبعث الخوف ليحرق الشوق، ويعيد كلماتك الأخيرة، وأسأل نفسي المجنونة، ماذا لو؟ عاودت الرحيل؟ وشوهت الذكريات؟ وألقتني في الهاوية؟.

كيف لي أن أتحمل صدمات الخوف المتتالية التي أنتجتها كلمات الرحيل؟ وألم الجحود؟ والفراغ الذي حل في قلبي بعد ذلك؟ فأنا لا شيء حين شعرت أن ماضينا أصبح تافهاً، وألبوم الصور التي تشغلينها في عقلي قد احترق، لم تحترق من تلقاء نفسها، بل أنتِ من أشعل فيها النار لكي تجعليني بلا هوية ولا وطن.

لا أنكر أنكِ أنتِ، الشهيةُ، البهيةُ، التي كنت معها، ولا أنكر مشاعري، وأيضاً لا أستطيع أن أنكر خوفي من تكرار المأساة، فما العمل؟ هل تملكين الحلول اللازمة لعلاجي منكِ، ومن سهامك التي جرحتني في لحظة ضعف.

لن أعود كما كنت، ولو أني أستطيع الاختيار لكنت مسحت الألم، ووضعتك في مكانك القديم قبل الرحيل، حين كنتِ أول الشوق، ومنتهاه وأعذب الحب ومبتغاه، حين كان لجام العواطف بين يديكِ تثيرينها كيفما شئتِ وأينما شئتِ، لا أعرف ما أقول، ليتني أستطيع، فجمال الماضي، أصبح ماضياً، وخوف اليوم أصبح مريباً، يمنعني من الاقتراب، فالحواجز لا تأتي من فراغ غاليتي، وأنتِ بنيتِ ذلك الحاجز المرعب في نفسي، لو أنكِ تقدرين، دمريه لأعود كما كنت.

عساكَ بخير..

عسى أن تكون بخير صديقي، مرني الشوق وأجبرني أن أسأله عنك حين راجعت بعض الذكريات الجميلة التي اعتقد أنها جمعتنا سوياً في فترة من الزمن، ورأيت روعة ما تركت في رأسي، أردت أن أرسل إليك التحية على ذلك، ورغم معرفتي أن التحايا لا تصل دائماً حرصت أن أتمنى لك الخير على أقل تقدير، الأمنيات أوهام جميلة نرسلها لمن نحب وهي لا تحقق لهم شيئاً سوى تصور نتركه في نفوسهم أن هناك في الطرف البعيد شخص يهتم بهم، وأنا مهتمٌ بذلك لا شك، وعلى استعداد أن أرسل الأمنيات باستمرار لتتأكد أن الذكريات لا زالت تنبض في ذاكرتي لتوقظ تلك الصداقة العتيق التي جمعتنا.

تعرف صديقي ما الوفاء الذي يتحدثون عنه جيداً بخلاف صديقك الذي يكتب هذه السطور فهو مذبذب في مقاييس الوفاء ومقاييس الإخلاص والحب، أما أنت فمقاييس تلك الأمور عندك تمشي في خط مستقيم، ولا تتأثر بتغييرات الحياة ولا شك لدي أن الحفاظ على هذه القيم مهم وضروري، لكننا بشر عزيزي حتى ثقتنا بأنفسنا تهتز وتتغير فكيف لي أن أخط كل القيم على مسطرة لا تتعرج مساراتها ولا ترتعش، أنا لا أستطيع أن أخط لنفسي طريقاً مستقيماً في الحياة، تعبت وأنا أحاول أن لا ترتعش يدي حتى لا يتحول الرسم لمنحنيات ومنعطفات ونبضات متقطعة.

 هناك فرق بيننا لا شك في نظرتنا للقيم، فأنت أسمى حين تطرح تلك الشعارات لكني أصدق حين أفعل، أتمنى أن تقيس كل القيم على حياتك قبل أن تتحدث عنها باستقامة، وترسم خطوطها بناءً على أفعالك، وسترى حينها أنك كائن بشري لا يمكنك أن تحافظ على مستوى واحد يشكل خطاً مستقيماً طيلة حياتك.

هناك صديقٌ لنا قديم اعلك تذكره وتتذكر كمية الكره التي تحملتها له في قلبك، حين كنا أصدقاءٌ ثلاثة، انتقاداتك وحديثك عن مثالبه وأخطائه ونزواته ومغامرات وفشله، لا أظن أنك احتقرت إنساناً بقدر ما احتقرته، وهو في الطرف الآخر كان ينظر إليك بإجلال، فأنك صاحب مبادئ راسخة وقيم عُليا، وأن ما تقوله هو الصحيح، متصالح مع نفسه ذلك الصديق يعرف أنه يخطئ ويقر بذلك دون أن يدافع عن نفسه في أغلب الأحيان، يتركك تهاجمه وتتهكم عليه، وينظر إليك أحياناً والخجل يملئ تعابير وجهه، تعرف ما الذي فعله حين وجد أن انتقاداتك، وتهجمك لا ينتهيان، بكل بساطة رحل، تركك مع نفسك تقلب تاريخه لتثبت أنك الأستاذ الذي من حقه أن يقيم تلاميذ، ربما تخرج هو من مدرستك بعد أن حصل على أدنى مستوى ينقله للمرحلة التالية، لكنك بقيت في مستواك الثابت لم تستطع أن تقتني منه الجميل، وتأخذه لتحصل على علامة تأهلك للانتقال إلى مرحلتك التالية، صدقني حين رحلت أنا أيضاً حصلت على أقل تقييم منك بالكاد نقلني للخطوة التالية لأرتقي وتبقى في محلك، تنادي بما لا تفعل، وتنتقد الجميع لكي لا يسبقك أحد في توجيه السهام، تتهمهم لكي تضعف حججهم في إثبات جرائمك.

عزيزي ألا زالت خطوطك مستقيمة؟ أرجو أن تراجعها لتتأكد من سلامتها، عليك أن تعرف أن أرضك التي تقف عليها ليست مستوية، بل مدورة فلو سرت على خطك مستقيماً لا شك ستخرج من مجالها وكذلك الحياة منحنيان وفجوات، ونحن خلقنا في فجوة، وخرجنا من فجوة، ونستمر في الدوران حتى نسقط في النهاية في فجوة، فلا تنزه نفسك، فلم تخلق من زهرة، ولم تولد في خلية أحادية لا تنتمي لأحد، سلالة تاريخك مكتوبة عبر أسماء اشتركت في إنتاجك لتخرج بأصابع وسيقان وكفوفٌ وأكتاف، كاملاً في كل شيء إلى تلك الفجوة التي في رأسك التي ظلت فارغة.

صراخ ..

تتكرر الساعات .. واجمل ما فيها .. الفراغ
و كذلك الأيام .. واجمل ما فيها .. الوحدة

وعندما اقف .. بين الأمس القريب
والحاضر .. البعيد

أرى تلك الخطوات تبتعد .. أكثر
وتسير .. بثبات ..

لكن النهاية لم تأتِ بعد ..
فلكل ألم ..

صراخ ..

يجعل الجروح .. اعمق .. مما نتصور ..

احترق ..

كيف انتِ
اخبريني ..
كيف قلبك ..
كيف عينك ..
هل تريني؟؟

ام تركتي الذكريات
للضلوع الخاوية
والرفوف الخالية

لتدفينها
اخبريني

عزيزتي لا تهربي .. لا تتركيني
دون كلماتٍ ..
كافيه كي تقنعيني

فأجاباتك واهية
مثل الرياح ..
تعصفي ..
ولا تقتليني

وترحلي ..

كيف انتي .. تسمعين
تأكلي وتشربين
فوق جثمان الهوى
وتسكرين
وتشاهديني .. احترق








نحو الهوى ..

على الحافة ..

عند أطراف الزمن يقف شخص ينظر إلى الأسفل!!

على أطراف الزمن يقف لا ينظر إلى الخلف!!

على الحافة هناك كان يبكي.

توقفت ساعته لكنه حي، توقفت كل المشاهد، وما زال يتنفس، توقفت الأحلام والأماني والرغبات.

ولا زال موجوداً، بينه وبين الموت أن يرخي أعصابه، ويمد قدمه في الفراغ!

وقبل أن يسقط، انهارت أحلامه، وتوقفت مشاعره وتمردت عواطفه، ولعنته أفكاره.

قبل أن يسقط للهاوية انتحر قلبه.

شظايا ..

اختنق ..

ولا جدوى ..

لكني أختنق

تجتمع بداخلي كل المشاعر..

أجمع قواي فأبعثرها… لا تتبعثر

تنفجر..

وانفجر..

معاناة حرف ..

تلك الآلام العميقة
بين معاناة الحروف وقذارات القلم
حين يصبغ لون البياض
ويسمم الورق
وحين تبكي الحروف
وهي تموت
بين شفرة قلم وحضن ورقة

أعزائي..

أعزائي..

المخمورين والمغمورين


لا تشربو الحب سكراً
فالهوا خمرٌ رديئ..


فيه آفاتٌ وجنون..
تسكن بين النون والنون

شجن ..

إن للنغم شجناً يهز الروح ويحرك ذكرياتها كشجرة يهزها الريح فتئن ألماً لكنها تتمايل، رغم ذلك لتجعل العصف روحاً تنبعث فتحرك النفس الميتة، تُحي آلامها وتعيد أصداء الماضي وتجسد مواقفه، لحظاته، سكناته، آلامه، أحزانه، مآسيه، لنعيش الشعور الذي تجسد في تلك اللحظات العتيقة.

لا نستطيع أن نضع للشجن ملامح فهو يرتبط بالقلب وهذا المجنون حمال أوجه، فشجنه يُطرب ويضرب، يُفرح ويُحزن، شعورٌ عميق يغوص في النفس فيُخرج تلك الملفات الصغيرة التي نخبأها في صدورنا، يقرأها بصوت عالٍ لكي نسمع صدى تلك الكلمات التي تهز كياننا وتوقظه.

ماذا تملكين.. من حلول .
وماذا املك من .. القدر .

ففي البعد تتعبنا .. الفصول .
وفي القرب .. ترهقنا الفكر .