الرجل الذي باضت النحلة في بطنه

في سالف الزمان يحكى أنه كان هناك رجل يحرث في أرضه وقد نال منه التعب ما نال فاستراح إلى جذع شجرة في بستانه، وما إن شعر بالنعاس أحس بشيء يبلل وجهه، فمسح ما أصاب وجهه ونظر إلى الأعلى فإذا هو خفاش قد حل على تلك الشجرة فوقه ، وألقى سلحه على ذلك المزارع، فستشاط المزارع غضباً وأخذ حجر وألقاه على الخفاش، وكان له من الرمية ما أرد فسقط الخفاش على الأرض فأخذه وسلخه، وطبخه ثم كان وجبته الشهية على مائدة الغداء .

قال أحد التلاميذ: هل يأكل الفرنجة الخفافيش يا أستاذ؟

فأجاب الأستاذ: لم يكن ذلك الرجل ممن الفرنجة يا أولاد، بل يقال إنه من قوم يأجوج ومأجوج.

قال تلميذ آخر: ومن هم يأجوج ومأجوج يا أستاذ؟

فرد الأستاذ: هم قوم أتوا من شرق الأرض، استباحوا البلاد وقتلوا العباد، ونشروا الفساد، ثم أصابهم الطاعون فماتوا دون البشر، ودعوني أكمل لكم حكاية ذلك الرجل.

بعد أن أكل ذلك المزارع النشيط الخفاش بثلاثة أيام قام من نومه في المساء فزعاً فقد رأى فيما يرى النائم أن في بطنه نحلة وأنها قد باضت، ولم يكن في بطنه نحلة لكنه المرض، الذي كان في بطنه مما أكل، ثم مرض  وشعر بتعب خفيف وألمٌ في جسده، وكان يسعل بين الفترة والأخرى، ولم يطل ذلك المرض، بل رحل سريعاً كما جاء، فتعافى المزارع وعاد ليحرث أرضه بنشاط، وجهز الغلال وذهب للسوق وباعها كلها بأفضل الأثمان.

كان زمانهم زماناً عجيباُ فقد كان الحديد في زمانهم ينطق ويطير وأن الرجل يخاطب الحديد، فيرد عليه صاحبه القول، بل ويجتمع أناس كثيرون على حديدة يستمعون لمن يتحدث من حديدة أخرى ، وقد سمع ذلك المزارع من حديدته أن الناس قد حلمت حلماً واحداً، وهو أن نحلة قد باضت في بطن كل من أكل من التفاح الأحمر، فنظر المزارع إلى بطنه، وتذكر حلمه، فقام وذهب لصاحب تلك الحديدة التي يملكها حاكم البلاد والتي يستمع الناس لما يقوله الجالس ورائها، وأخبره بحلمه، وأنه هو من باع التفاح الأحمر في البلاد .

فقال أحد التلاميذ: هل يوجد تفاح أحمر يا أستاذ؟

فقال الأستاذ: نعم يا أبنائي يقال إن التفاح كان بعضه أحمر، ولذا فقد أصابه المرض لأن به شيئاً من الدم ودعوني أكمل لكم الحكاية حين وصل الخبر لحاكم تلك البلاد ضحك وهو يسمع تلك الرواية وطلب التفاح الأحمر، وأكل منه ليتأكد بنفسه من النحلة، وأقسم بأنه سيسألها هل يبيض النحل في بطن كل من يأكل من التفاح الأحمر، عاد المزارع إلى أرضه وهو يضحك ويقول، جنت الناس، كيف يبيض النحل في بطون البشر، وفي اليوم التالي، عادت الأحلام يتردد صداها عبر الحديد، وكثر الكلام عن النحل، وفي اليوم التالي، تعب الكثيرون، فمنهم من مرض مرضاً شديداً ومنهم من شعر بتعب قليل ومنهم من مات .

استمر النحل يبيض في بطون البشر، وأصبح كل بيت فيه مريضٌ أو ميت، وقد حل موسم الشتاء، فركب الناس الحديد وطاروا على متنه للبلاد كلهم ينشدون الدفيء وانتشروا في الأصقاع .

قاطعه أحد التلاميذ: وهل يجنى التفاح في الشتاء يا أستاذ؟

فرد الأستاذ: الذي يجعل الحديد يتكلم ويطير، يجعل التفاح يُجنى في الشتاء، فسبحانه العلي القدير، ودعوني أكمل لكم الحكاية: حين انتشر أهل تلك البلاد في العالم، بدأت الأحلام تنتشر في، وبدأ النحل يبيض في بطون البشر كافة، ومرض الناس، وكان زمانهم عجيباً، ولهم من العلم ما لم يصل إلينا، وقالوا إن لهم من التنظيم ما لم نعرفه في القديم ولا الجديد من الزمان، ويقولون إن الأرض كلها قُطعة إلى خمس قطع كبيرة، وأن تلك القطع جزأت إلى قطع أصغر وتسمى كل قطعة دولة، وتسمى القطعة الكبيرة قارة، ولم تسلم قاراتهم الخمس ولا دولهم من الوباء .

انتشر الوباء وحبس جنود الحكام الناس في بيوتهم لكي لا يخرجوا وتنتشر العدوى بين العباد، ويقال إن الناس كانت تموت من الجوع ولا يؤذن لها بالخروج لأرزاقها خوفاً من الوباء، بقي الحال هكذا طويلاً، وظل النحل يبيض في بطون البشر ثم يعم الوباء ، فيموت أناسٌ كثر ، إلا أن الوباء لم يكن هو المتسبب في الكوارث التي حلت بعد ذلك .

فقال تلميذ: وما حل بعد ذلك يا أستاذ ؟

فأجاب الأستاذ: بعد أن حبس الناس في بيوتهم، حبس الحكام الطعام لأنفسهم وجنودهم، ومن لديه فائض من الطعام خزنه وحفظه لكي لا يتلف، والكل ينتظر أن يزول الوباء، لكن بعض تلك الشعوب أصابهم الجوع، فثاروا ضد حكامهم، وبعض البلدان غزت بلداناً أخرى لتستولي على الطعام، وبعض البلدان لم يبقَ منهم إلى القليل بعد أن أصابهم الجوع والوباء، كل هذا حدث بسبب رجل أكل خفاشاً فباضت النحلة في بطنه ومرض ونشر المرض في الأصقاع، انهارت البلدان وانتشر القتل وفني الكثير من العباد .

ويقال إن التفاح الأحمر أصبح محرماً فلم يأكله أحد بعد ذلك ولم يزرعه أحد وأن الناس قتلت النحل والخفافيش فهربت إلى الجبال، وأن الحديد بعد ما جرى في تلك الفترة لم يطر، فقد أصبح ثقيلاً بعد أن أصابه المرض، والصمم والبكم فلم يسمع ولم ينطق بعدها أبداً، وأن الفرنجة هم أكثر من أصابهم الحزن فقد مات منهم الكثيرون، أما أهل الشرق فقد عادوا أقوياء، والعرب أيضاً لم يسلموا من النحل فقد مات الكثيرون إلا أن رحمة الله قد أنقذتهم فثاروا ضد حكامهم، ووزعوا المؤن على العباد، وساد العدل بعد ذلك .

قال أحد التلاميذ: ما اسم ذلك الرجل يا أستاذ؟

فرد الأستاذ : قالوا أن اسمه كورون، وأطلق على ذلك الوباء اسم كورونا نسبة لذلك الرجل ويقال: إن ذلك الخفاش الذي أكله ذلك الرجل أُرسل له من السماء، فحل على رأسه لكي ينشر الوباء، فيموت الظلمة ويبقى الصالحين.

فقال تلميذ: هل الفرنجة صالحون يا أستاذ؟

يقال يا أبنائي أنهم بعد ذلك الوباء وبعد أن ثارت الشعوب، وبعد أن غزت البلاد بعضها بعضا واستحر القتل ساد السلام وعم الصلح الأرض، لكن البشر عادوا إلى فسادهم فيما بعد، فالشيطان لم يمت في ذلك الوباء، جنبنا الله الوباء .

قراءة في المجموعة القصصية (حارس الجسد) للأستاذ هاشم محمود .

لا يخلو مجتمع من مشاكل، ولا يخلو البشر من الأخطاء والذنوب، ولو قسمنا المجتمع لرجل وامرأة لوجدنا أن المرأة تتحمل جل الذنوب في المجتمع كما أنها العنصر الضعيف الذي لا يستطيع التصريح بأخطائه أو رغباته المكبوتة، كما أنها تتنازع بين العاطفة والرغبة والأمل في شريك حياة يوفر لها الاستقرار العاطفي والجسدي، لا تختلف المرأة عن الرجل من ناحية الرغبة الجسدية إلا أن الرجل لا يحمل وزر خطيئته بعكس المرأة التي يحاسبها المجتمع على أخطائها ويحملها هي وأسرتها عار الخطيئة.

في هذه المجموعة القصصية حكايات متنوعة تشرح الواقع المسكوت عنه لدى المجتمعات العربية من الخيانات والعلاقات والرغبات الجنسية لترفع الغطاء عما يدور في خلف الكواليس لكنها تنطق باسم المرأة التي لا نسمع صوتها إلا ما ندر، في هذه القصص تصرخ المرأة وتشتكي رغباتها وأهواءها وتصف كل ما تشعر به من ألم ولذة ورغبة وخوف.

صوت المرأة عالٍ حين تقع في الشهوة وتستمتع، وألمها شديد حين تشعر بالخيانة، واستسلامها متوقع حين تريد الحفاظ على أسرتها وتماسكها، وحين تصرخ بصدى ما يدور في نفسها، وهنا تجاوز الكاتب الكثير من الحدود ليقول لنا أن المرأة كائن له صوت يجب أن نسمعه باهتمام، فهي الشريك الدائم وهي الحبيبة فلا يجوز أن نتجاهلها، بل يجب علينا أن نتقبل تصرفاتها وأن نجد لها الأعذار كما نفعل مع الرجل فهي لا تقل عنه من حيث التكوين ولا الرغبات، وأن نحمل كلا الجنسين المسؤولية بشكل متساوِ حين يكون هناك خطأ.

المجموعة القصصية متجاوزة من حيث الجرأة التي ربما لا يتقبلها القارئ، فالأستاذ هاشم محمود كتب بتجرد ووصف أمور تخص النساء بشكل جريء وغريب عن المجتمع، فلم يلجأ إلى أسلوب التورية، بل وضع الأمور في نصابها الصحيح فنجد الخيانة متجردة والشهوة عنيفة والخطأ صريحاً  والأمور النفسية التي تجول في خاطر أي امرأة واضحة، فحين تحدث نفسها عن الشريك تبدي الرغبة، وحين تتألم تبكي وحين تهان تصرخ، وحين تجبر تستسلم.

لم نتعود هذه الصراحة في الكثير من القصص التي نقرأها وتوضع فيها المرأة تحت المجهر، لأن الرقابة الذاتية لدينا تمنعنا من السير في هذا الاتجاه وتقف المحاذير المجتمعية والرقابية حاجزاً دون كشف الأمور المستورة وتناول القضايا الحساسة بشكل واضح وأنا هنا لا أدري هل أهنئ الأستاذ هاشم على صراحته أم ألومه على جرأته، وفي الواقع هو لم يأتِ بشيء غير موجود لكنه كشف الغطاء فقط.

تحوي هذه المجموعة خمس عشرة قصة تتناول قضايا تمس النساء في كتاب يقع في 164 صفحة، القصص ممتعة وسنجدها في الواقع بأشكال مختلفة، أنصح بقراءتها لمن هم فوق 18 عاماً .

ضـغـيـنـة ..

أحياناً يحمل الأشخاص ضغينة أكبر مما نتوقع دون سبب …

ضـغـيـنـة

لم تكن تلك الابتسامات التي كنا نتبادلها مصدر إعجاب بل كانت تخفي وراءها الكثير من الضغينة ، والكثير من الحقد ربما لا أحقد عليه أنا لكني دون شك أحمل له من الضغينة ما لا يمكنه أن يتصوره ، وحين أعود إلى الواقع لا أجد من ذلك الرجل أي تصرف يثير الضغينة في نفسي، منذ اللقاء الأول كان انطباعي عنه سيئاً، نظراته الحادة نبرة صوته المقرفة، جعلتني لا أتقبله على الإطلاق، لذا سعيت منذ ذلك اليوم أن أدمره فافتعلت المشاكل في كل عمل يقوم به وأنا متأكد أنه يعلم أني أقف خلف تلك الأمور المزعجة التي يواجهها ومتأكد أنه لو كان بمقدوره أن يدمرني لفعل، كم الفخاخ التي نصبتها له أوقعته في الكثير من المشاكل التي خرج منها مشوهاً ولولا أن علاقاته لا تزال جيدة ببعض المسؤولين، لتم طرده من العمل دون شك .

لا اعرف لما أبغضه ولا أعلم لما ينمو البغض في نفسي ويكبر كلما رأيته، لا أجد في نفسي سبب حقيقياً، ورغم ذلك أشعر بالسعادة حين يقع في مشكلة افتعلتها له، بل ربما يفوق شعوري السعادة ذاتها واصل لمرحلة النشوى والرضا عن النفس، فأكون راضٍ كل الرضى في تلك المواقف .

الغريب في الأمر أن ذلك الشخص لم يتهمني بشكل مباشر ولم يقل أي كلمة سيئة في حقي رغم معرفته بكم البغض الذي أحمله، وفي يقيني أنه إنسان خبيث يخفي ما يريد ولا يصرح به، بل حين أراه في العمل أشعر بأنه يخبئ سكيناً خلف ظهره .

أخبرني السكرتير اليوم أنه طلب مقابلتي، تجاهلت حديثه لكنه بعد نصف ساعة أخبرني أنه عاود الطلب، فطلبت منه أن يُأخره قدر المستطاع فأنا أتمنى أن يمل ويرحل عن مكتبي دون أن ألتقيه ، ورغم ما فعلت أنتظر ولم يغادر، اضطررت أن استقبله ولم يكن لقاؤنا طويلاً لأنه جاء كما يقول ليسلم علي ويشكرني بعد أن قدم استقالته من العمل، وبقيت كلماته ترن في أذني إلى الآن “أشكرك لأني تعلمت منك ما لم أتعلمه من غيرك”

ما أزعجني ليست كلماته الملغزة ولا ملامحه التي لا أطيقها ولا نظراته الحادة التي تستفزني، ما أزعجني أنه سيرحل وسأفقد برحيله تلك المتعة التي أشعر بها في نفسي حين أؤذيه، وأزعجني أنه سيرحل قبل أن أدمره قبل أن أشفي غليلي وأنا أراه ينهار .

لم أدع له بالتوفيق ولم أتمنَ له الخير حين أخبرني بأمر الاستقالة، حاولت استفزازه، كنت أريد أن تخرج من فمه أي كلمة لكي أصرخ في وجهه وأطرده من مكتبي لكنه لم يمنحني تلك الفرصة إلى حين صافحني قبل أن يخرج، حينها قال: أنت مريض نفسي ويجب أن تتعالج، سحبت يدي من يده وصرخت في وجهه: أخرج من مكتبي .

جلست على الكرسي واسترجعت كل ما افتعلت له من أذى ومشاكل، وشعرت أن كل ما فعلته لا يصل لأثر كلماته الأخيرة  التي جعلتني أتمنى أن أقتله قبل أن يخرج .

مات الأول .. ورحل الثاني …

نشر في 10 أبريل، 2017

ظهر رغم المشاكل التي واجهته وتغلب عليها ومع قدرته العجيبة على تخطي العقبات لم يستطع أن يتخطى البكاء يبكي كطفل لأسباب عادية تمس مشاعره، أو تلامس جرحاً قديماً آلمه، رغم بكائه لا يزال صلباً في مواقف الشدة لا يهتز للصدمات، بل يهز الصدمات فينبهها بأنها لن تؤثر فيه ولن يجعلها المستفيد الأوحد بل سيستفيد منها، الصدمات التي مرت أكسبته الصبر والجلد والقوة والحنكة التي يواجه بها تعقيدات الحياة ومشاكلها دون ما إطالة تفكير يستنتج بشكل سريع ويعود إلى واقعة منتصر .

عندما مات ابني لم تدمع عيناه، كنا جميعاً نبكي بحرارة فهو الابن الأكبر الذي تعودنا عليه والذي أعددناه ليشاركنا مشاكل وهموم الحياة ويخفف عنا وطأتها عند الكبر، لم يبكِ أقسمت ابنتي أن أباها لا يحب أخاها أحمد أو بمعنى آخر لم يشعر بالحزن على وفاته رغم الحب الذي كان يبديه،  لم ألحظ على زوجي أي شيء سوى أن أول يوم لوفاة أحمد كان واجماً لا يتكلم ثم عاد إلى طبيعته فكان يتحدث معي ومع بناته وبعد أسبوع من هذا الحادث جاءني يمازحني فصرخت في وجهه

أين تلك الدموع التي تبديها عندما ترى موقفاً مؤلماً ألم يؤلمك موت ولدك، لم يرد !! أدار وجهه ورحل لعنته ألف مرة وآلاف اللعنات أرسلتها إلى السماء حين رحل ، ألا يشعر بما نشعر من ألم وضيق وكدر، الهموم التي سقطت على رؤوسنا بسبب وفاة ابننا الوحيد وهو لا يشعر .

لحقت به شددته من ثوبه سألته: أين دموعك؟ أجب، لم يلتفت لم يعرني اهتماماً فتشبثت بثوبه وأخذت أبكي التفت إلي أخيراً وقبلني على رأسي كعادته فحدثته بلسان ثقيل خالطه البكاء ألا تشعر بفقد ابنك، نظر إلي وهز رأسه بمعنى أنه يشعر

مر الأسبوع الثاني ولم ألحظ شيئاً إلا أن كلامه قل لكن ابتسامته الصامتة لم تفارق شفتيه ولا يحب أن ينظر إلى وجوهنا، جاء الأسبوع الثالث وكنا نجلس معه وهو منشغل بكتاب وكنا نـحدثه فيهز رأسه أنه يسمع ما نقول، ثم أسند رأسه إلى الكرسي وأغمض عينيه فرأيت فيه ما لم أره قط وكأنه يذبل .

شغلت عيناي بشيء أخر لكيلا أعكر عليه غفوته التي لم أتعود عليها ولم أرها من قبل .. أردته أن يرتاح أو يريحني من نظراته التي يظن أنها تنسيني ولدي لكن فضولي دفعني أن أذهب إليه فقمت من مكاني ومشيت بتباطؤ ، فكلنا ملأنا الضيق منه بعد وفاة أحمد، ولما اقتربت منه بدا شاحب الوجه كسته الصفرة أصابني الرعب وأمسكت يده فإذا بها باردة ، انقبضت أنفاسي وتسارعت يداي إلى وجهه اقلبه وأناديه خالد ، خالد ، فكان رأسه يتأرجح بين كفي كوسادة خفيفة لا تسكنها الروح صرخت بكل صوتي

خالد ، خالد

التفت اللي بناتي وتراكضوا ماذا حصل فسقطت عند قديه ابكي وهو لا يشعر بنا تداركت كبرى بناتي الأمر فاتصلت بالإسعاف ورافقناه إلى المستشفى وحينها عرفنا ماذا أصابه .. ضعف عام وانهيار عصبي حاد ، بسبب الحزن الذي لم يرد أن نشعر به في فقد احمد مكث في المستشفى أسبوعين وعاد بعدها إلى منزله غريباً لا يتكلم إلا ما ندر ولا يأكل إلا القليل فهو يمشي لا بل يتحرك كالريشة يحركه الهواء، خيال إنسان ما أن نلتفت عليه نجده يبكي في صمت تفضحه دموعه نحدثه فلا يرد إلا بكلمات أو يهز رأسه ويبتسم ابتسامة صامتة . وذات يوم كنت أرافقه إلى الطبيب حذرني بأنه لو بقي على تلك الحالة فسوف ينهار ولا يستطيع أن يستنتج ما سوف يصيبه ولم يختلف ظن ذلك الطبيب كثيراً فبعد يومين اتكأ على نفس الكرسي ومسك نفس الكتاب ثم رفع رأسه وأسنده على كرسيه وأغمض عينيه للأبد مات خالد هماً على ولده وقد اتهمناه إنه لم يحزن عليه أبدا أتعرفون ما الكتاب الذي كان يقرأه ، عفواً القصة التي يقرأها، قصة مدرسية من كتب أحمد كان قد ملأ الحواشي بحروف وقليل من النكت والكثير من الشعر وبعض الواجبات التي كان يجب أن يفعلها نعم هي أشبه بمذكرات أو ملاحظات كان يكتبها ابني ويبكيها زوجي فمات الأول وترك كلماته ورحل الثاني وهو يقرأها.

أنا والذكريات..

كانت تجلس هنا باستمرار صغيرة الحجم بفساتينها الصغيرة الأنيقة، تلقيها أمها كل يوم في نفس المكان، فتجلس تصفق بكفيها كلما علا صوت التلفاز بأغنية تضرب بكعبيها بارتجال غير منتظم وتهمهم بكلمات لا تجيد نطقها، تزحف وهي تمسك أجزاءً حادة تجرحني، أشعر بالألم وهي تستمتع بألمي حين ترى ذلك الخط يُرسم على الخشب ويشوهه، لا أنسى يوم وجدت أحمر الشفاه ملقى على الأرض كيف فعلت فعلاماته الحمراء شوهتني من الأرض وعلى امتداد يديها الصغيرتين .

أما شقيقها لا يعبث فيني كثيراً إلا في أوقات نادرة لكنه يقوم بفعل يزعجني، يصفق الأبواب بقوة فترتج جدراني ألا يعلم هذا الطفل العنيف لا أني قديم أَقدم من أسرته كلها، والده الغبي كان يفعل الفعل نفسه في صغره لكني كنت في ذلك لوقت أحمل الكثير من القوة وأستطيع التحمل أما الآن أشعر بأرجائي جميعها تهتز حين يصفق الأبواب، له تصرفات أخرى غبية لا يفعلها باستمرار كأن يحفر ثقباً في جدرانِ أو أن يركلني بالكره بعنف وبحركات متتالية حتى أشعر بالترنح.

الوحيدة التي أحمل لها ذكريات طيبة هي أمهم ،لم أرها وهي صغيرة، جاءت بعد أن تزوجها والدهم، منذ وصلت كانت حانية، تتحرك في داخلي باستمرار إلى أنها تتحرك برفق ورغم كثرة مشاغلها لا تهملني وتهتم بي كثيراً خصوصاً بنظافتي وأناقتي، فتلمعني وتجملني وتزينني باستمرار، وُجدت لتشعرني بالراحة فزوجها الذي لا يكف عن الطرق والقطع في ورشته التي هي جزءٌ مني يسبب لي الكثير من الأذى وحين يعطب شيء فيّ يتكاسل ويتلكأ ولا يصلحه وحتى لو أصلحه لا يفعل ذلك بعناية كافية، بل ليسكت زوجته التي تلح عليه ليصلحني.

رغم كل ما تفعله هذه الأسرة من إزعاج وكل ما تتسبب فيه من خراب وعطب في أركاني إلا أني كنت أريدهم أن يبقوا معي، بمجرد أني احتويهم أشعر بالدفء، وجودهم وأصواتهم وحركتهم تعطيني الأمل والشعور بأني أصلح للحياة ولم يحن وقت موتي، لم يمنحوني تلك الحياة الدائمة التي كنت أتمنى، في يوم من الأيام جهزوا حقائبهم، فقط حقائبهم، ظننت أنهم سيمكثون في الخارج يومين أو ثلاثة أو أسبوع على أكثر تقدير أحصل خلالها على الراحة التي أريد، الأيام طالت ولم يعودوا، شعرت بالسكون يلفني والصمت المميت يحيط بي من كل مكان، طالت الفترة فبدأت أشعر بتلك الحشرات الصغيرة تتحرك في داخلي، تلك الحشرات التي تكاد أصواتها لا تسمع تبحث عن الشقوق لتعيش فيها، تنخر عظامي بأنيابها الحادة، ورغم ذلك لم أتضايق كثيراً فقد بدأت أشعر بالأشياء تتحرك، رغم انتشار الغبار لم أشعر بالقذارة فما زلت نظيفاً.

الأيام مرت ولم يعودوا، لا نور يضاء ولا كعبٌ صغيرةٌ تضربني ولا طفل أهوج يصفق أبوابي ولا رجل أرعن يتسلى حين يقطعني بآلاته الغريبة، بقيت هكذا حتى مر طفل وألقى حجر فنكسر زجاج أحد نوافذي كأنه فقأ عيني حينها، شعرت برعشة من البرد تلفح ضلوعي، بعدها مر طفل آخر وألقى حجر كسر نافذة آخر وتوالت الأحجار، ثم بدأت أشعر بهم يتسللون داخلي، أعرف أنهم لا يأتوا لكي يضعوا أكاليل الزهور، في أحد المرات تسلل متعاطي للمخدرات مكث فيني أربعة أيام، كان لا يكلف نفسه أن يذهب للحمام لقضاء حاجته، يفعلها في أي زاوية قريبة منه ، كنت أريد أن أصرخ في وجهه “أيها القذر” لكن لا جدوى، أحياناً يتسلل بعض العشاق أو بعض الأطفال، الآن أشعر بمدى قذارتي “أنا قذر” منذ أن حملت تلك السيدة الجميلة حقائبها هي وزوجها وأطفالها وخرجوا، لم أشعر النظافة، ابكي مما أنا فيه، كل شيء مهمل ومهشم ، حتى ذلك الغبي الذي كان يصلحنِ بتثاقل أصبحت أشتاق إليه على الأقل كان يهتم بي حين أصاب بحجر، ويا ليت تلك الصغيرة تعود وتضرب بكعبيها لتوقظني كل صباح، سأهديها أحمر شفاه جديد لكي ترسم تلك الخطوط على أرضي وجدراني وكي أسمع صوت أمها وهي تصرخ بها وتأتي لتنظفي بلطف.

 مات الأمل مع مرور الأيام ولم تتكسر نوافذي فقط، أبوابي تكسرت وأكثر من جدار، وأصبح الكثيرون يمرون وينظرون إلي باشمئزاز وخوف وريبة، لا انتظر الآن إلا أن يلقي فيني أحدهم عود ثقاب ليكتب شهادة وفاتي.

كلاكيت ثاني مرة ..

جلس بجوارها ورغم أنه لم يسألها، لكنها شعرت بسؤاله : لماذا تبكين .

هناك شيء يتحرك في نفسي يؤلمني، أحدهم استطاع أن ينتزع مني السعادة، كنت أظن أنه السعادة ذاتها، ظننت أنه يشعر بي .

عادت إلى البكاء من جديد ..

ثم صرخت ، كنت أحبه بجنون ، لكنه رحل .

كان ينظر إليها ودت لو يسألها: هل كان يحبك بجنون كما كنت أنتِ تحبينه ؟

أجابت دون أن يطرح السؤال: الرحيل يدمر كل التوقعات، ويقتل الأمل، الرحيل يجعلني أقسم أني أحبه أكثر من السابق، هل تعرف معنى الرحيل؟ أظن أن الرجال لا يعرفون ما الذي يصنعه الرحيل في قلب امرأة، لا يعرفون أن الحب حين يسكن في قلب النساء لا يترك مجالاً لغيره، فترغب أن تضع الرجل في كل أرجائها وهذا ما فعلته، لقد وضعته في كل أرجائي، لكنه رحل .

ابتسم رغم أن ألمها قد طغى على المحيط .

أنت أيضاً رجل، لا بد أنك دمرت امرأة، ووأدت فيها الشعور بالحياة، أنت رجل تجلس بجواري وتسألني، لماذا أبكي، ارحل عني لا أريد أن أتحدث مع أحد .

سمعها لكنه لم يتحرك، كانت ابتسامته تكبر، وعيناه تتألق أكثر .

نظرت إليه بغضب وقالت: هل تتوقع أن أعتبر جلوسك عندي مواساة، أم تتوقع أن أرتمي في حضنك لتمنحني السكينة، أم أن أقول لك كل أسرار الدموع التي تنزل، أو أطلب منك أن تساعدني، ماذا تريد؟

ابتسم لكنه لم يتكلم ولم يتحرك .

شعرت بوخزة في قلبها، ابتسامته بدأت تطعنها، شعرت أنه يستهزئ بدموعها، قامت ونظرت إليه بغضب ثم صفعته، دُهش من تصرفها لكنه لم يتألم، لم يتحرك من مكانه، ألقت بجسدها بجواره وغطت وجهها بيدها وانخرطت في البكاء، ثم قالت وهي تدفن وجهها بين كفيها: أنا آسفة لا أستطيع التحكم في تصرفاتي .

نظر إليها وابتسم .

صرخت في وجه لا تبتسم، بدأت تضربه بكل ما أوتيت من قوة ثم هدأت وقالت: أنا آسفة، لكنها بعد ذلك قامت ورحلت دون أن تنظر إليه .

الحياة رَحلت معها، لم يؤلمه رحيلها الآن، بل رحيلها منذ سنة، حين قال لها إنه يحبها، لم تلتفت إليه في ذلك الحين وقالت بهدوء وبمزاج عالٍ: أنا لا أناسبك، نظرت إليه بعدها وابتسمت وهو يحترق، لم تشعر بنيرانه ولم تعرف ما الذي فعلته حين أدارت له ظهرها ورحلت، الآن لم يأتي ليشمت ، بل هي من طلبت منه الحضور، تحدثت واشتكت، وهي من فقدت السيطرة على أعصابها، وصفعت شخصاً بجوارها وضربته، ثم أدارت له ظهرها ورحلت، شتان بين ذلك الرحيل وهذا الرحيل، في السابق تركته أشلاء، وفي الحاضر رحلت وهي تلملم أشلاءها .

لم يتحدث لأنه يعرف أن الصمت كان أفضل من الحديث، يعرف أنها ستقول له أنها تتألم، ويعرف مصدر ذلك الألم، فمن منحها ألم الحاضر هو من منحها الهدوء في السابق ليدير لها ظهره ويرحل .

الصمت كان في المرة الأولى مؤلماً ، وافي المرة الثانية أيضاً مؤلم، لكنه يعرف أن ما وصلت إليه لن يمنحه قلبها ولو منحها قلبه من جديد، فقلبها أصبح عند شخص آخر سيطارده ويبحث عن أي شيء يخصه، سيزورها في أحلامها ويقظتها، وسيحتل كل ذكرياتها .

انفجار لحظة .. 

نظرت إليه باستغراب، ومن حقها أن تنظر إليه بهذا الشكل، فعندما تخبر امرأة أنك لا تحبها لا تتوقع أن تنظر إليك بنظرة الرضا، حين كانت تجلس بجواره قبل أن تسأله، كانت تشعر أنها الإنسانة الوحيدة في حياته دون أدنى شك في ذلك، لكنها الآن تحمل كل التساؤلات وتنقلها إليه بتلك النظرة الغريبة التي تحمل الاستغراب والرجاء والدموع، بل تتجاوز ذلك وتسأل: لماذا؟

لماذا لا تحبني؟ كانت تنتظر الإجابة، رغم أنها لم تطرح عليه السؤال من الأساس، لكنها كانت تتوقع أن يتحدث عن السبب الذي لا يجعله يحمل لها مشاعر الحب ولا يبادها العواطف في هذه اللحظة التي توقعت أن تكون نقطة محورية في علاقتهما، أخبرها بأنه لا يحبها وصمت، كان يعرف تلك الأسئلة التي تريد أن تسأله إياها، ويرى مشهد الدموع في عينيها، لكنه فضل الصمت .

الصمت، هو الحيرة التي أرسلها إليها ، وهي الحيرة التي ألقى فيها بنفسه، فانعقد لسانه، ولم يستطع الحديث، وهي رغم الاستفهامات لم تنطق بكلمة، لم تتجرأ أن تسأله لماذا؟ شعرت بأنها لا تستحق الإجابة، الشخص الوحيد الذي أحبته، لا يريد أن تكون حبيبته، ولا يريد أن يصل معها لما تتمنى، بالفعل لا تستحق الإجابة، وهو أيضاً لا يستحق السؤال .

والسؤال، يكرر نفسه بينهما فهي تسأل في صمت، وهو يجيب في صمت لا يسمع أحدهما الآخر، تريد الإجابة من صنم لا تعرف ما بداخله، وهو يشرح لمساحات الصمت في نفسه الأعذار التي احتجزها لهذه اللحظة، وكلاهما بدء يتحاشى النظر إلى الآخر، كلاهما خائف من الكلمة أن تخرج وتفجر الصمت والدموع .

الدموع، شعر بحاجة إلى الدموع، لكنه لا يملك أن يخرجها من نفسه كما يراها تتدفق على خدها ، رغبة كبيرة في البكاء، لا يعرف كيف يخرجها من نفسه، تمنى أن يصرخ، تمنى أن يبكي كطفل، لكنه شعر بالشلل، لسانه لا ينطق ولا يريد أن يحرك أي جزء من جسمه، كأن المحيط المقدس الذي يوجد فيه سيتدمر لو قام بأي حركة أو نطق بكلمة، تجرأ ونظر إليها بطرف عينه ، يعرف أنها تنفجر من الداخل لكنه لا يريد أن يخرج ذلك البركان الذي بداخلها .

انفجرت، ولم تقل شيئاً، انفجر داخلها كل الحزن والغضب لكنها حين انفجرت لم تجرأ على طرح سؤال من كلمة واحدة، وقفت، لم تنظر إليه في تلك اللحظة، حملت حقيبتها، وأدارت له ظهرها ورحلت …