أيها المجهول..

أيها المجهول، تعبت أفكر في تفاصيلك لأجعل لك كياناً يمكنني أن أتعامل معه دون حيرة، رسمتك في مخيلتي إنسان لطيف وجشع يجمع التناقضات يخلق المحبة من لا شيء ويشعل النار في كل شيء، أردت أن أراك لكي أقتل الخوف من الجهل فأنا الجاهل الضئيل الذي ينظر إلى البعيد حتى يحترق بصره في أفق لا ينتهي يبحث عما رسم في عقله، يتوقع أن يرى ما يجهل ليطمئن ويكف عن التفكير وأنت تستمتع بحيرته وتخلق مجاهيل أكثر ليبقى بصره معلقاً في أفقك للأبد.

أيها المجهول، ها أنا ذا بين النار والجنة يسبقني اللهب حين أجري خائفاً وتبتعد الجنة حين آتيها راكضاً، فلا احترقت ولا تنعمت، بين رجاء وأمل أترقبك لتكشف لي المسافة بين النعيم والجحيم؟ وتعطيني أرضاً آمنة لأقف وألتقط أنفاسي دون خوف.

أيها المجهول، تعرف أني لا أكون إلى حين أبحث عنك في ثنايا الماضي ومساحات المستقبل، تلك الفراغات المطوية في سجلات التاريخ وتلك الصحائف البيضاء المنثورة في مستقبل الزمن، أنا بينهما بين ما كان وما سيكون، أردت أن أكشف المجاهيل وأفكك رموزها عللي أجد أحد الخيوط الذي يوصلني إليك فأمسكه بكلتا يدي وأسحبه لتراني أقف أمامك وأصرخ “لقد جئت إليك، لأكون أنا” بينك وبين الأفق أقف أحمل تلك الأسئلة الحائرة لأنثرها في وجهك وأقول لك “أجب”.

أيها المجهول، أنت كالسراب الجميل الذي يعلق الظمآن عليه كل آماله في الحياة حين يراه فيلهث ورائه وهو موقن أنه سيروي ظمئه القاتل ولا يدري أنه يسير لحتفه بإرادته والأمل يملئه، هل رأيت إنساناً يسعى لموته بسعادة مثل ذلك العطشان، هل رأيته حين وصل إليك وعرف أنك وهم لا طائل منه إلا الموت، حينها يضحك حتى انتهى مثل آماله التي احترقت في رحلة البحث عنك.

أيها المجهول، يكفيني من غيابك أنك دمرت تلك الأحلام التي صنعتها من جهلي وغبائي، والأوهام التي علقت عليها صحف المجد الكاذبة، وتلك الأمنيات التي كنت أرعاها لكي تنمو في حدائق الخيال الخصبة. شيءٌ واحد جميل أحمله كل وأشكرك عليه، أنك ساعدتني على أن أحرق الأيام في رحلة البحث لتمر بلا ملل قبل أن أرحل.

الغياب ..

لا تكن معي كالذي كان صاحباً ساحباً لي في الهوى حتى هوية فتركني أهوي في هواه، قد رآني في رباه مثل الغيوم السابحة مثل الندى قد كسوت الريح عشقي وغسلت العمر بوجدي ولم أجد وجد الهوى في الهاوية.

لم أعي أني على أطراف الزمان أبكي أياماً مضت لم تترك من الشَعر أسوداً، قد مضت وما زلت أمشي فيما مضى بخيالٍ خصب وأحلام تزخرفه وكأني طفل قد لبس العيد ثيابه ليرقص معه فأخذ العيد ثيابه ورحل.

لم يبكِ الطفل ثيابه، بكى الأمل في عيده الراحل، بكى حتى ذبل ومضى في طريق الذبول يسكب خمر عينيه، فتزهر شوكا جارحا بين الأماني فتمزقها أشلاءً.

لماذا يسحرنا الغياب بحزنه فنغيب بين الأنين والذكريات، يسحبنا عن واقعنا حتى نصبح أطياف بشر لا يعنيها الواقع؟ أشباحٌ نعيش خارج زماننا كأننا جئنا من المجهول، لنُمضي ما تبقى لنا من الحياة.

قراءة في رواية ” امرأة الضابط الفرنسي” للكاتب جون فاولز ..

لن أتحدث عن الأسلوب السردي في هذه الرواية ولن أتحدث عن الحبكة الروائية ولن أتحدث عن القصة التي تحتويها، فهذه الرواية نوع مختلف من الروايات التي قرأتها، نوع يقع بين التخمين والتوقع والمفاجأة والكاتب السيد جون فاولز، عرف كيف يضع القارئ في تصور مشهد ثم يقلب الطاولة رأساً على عقب فيعيد المشهد بشكل آخر تماماً.

توجد قصة في الرواية ويوجد زمن وتوجد شخصيات، والشخصيات هي العنصر الأهم في في الروايات لكن في هذه الرواية لهم أهمية خاصة حيث تشعر بتأثير الشخصيات على الكاتب بشكل قوي وحضور مؤثر في تصورات الكاتب لروايته التي يطرحها، فالشخصيات تلعب دوراً مختلفاً عن دورها في الروايات النمطية، فالكاتب كما يقول ويقول غيره من الكتاب أن الشخصيات يخلقها الكاتب لكنها حين توجد تظل في رأسه ويصبح تأثيرها فيه أقوى مما نتصور، لكن الكاتب لم يجعل ذلك التأثير خفياً بل صرح به في مشاهد كثيرة في الرواية وخصص الفصل(13) يتحدث فيه بالكامل عن هذه النقطة بالتحديد ورغم أنه أخرجني من صلب حكايته إلا أنه رسم لي صورة التأثير القوي للشخصيات فيها وأنه سيجعلها ترسم أدوارها دون تدخله، وإن تدخل ستمسح ما كتب لتكتب هي النهاية التي تراها مناسبة.

وهذا بالفعل الذي حدث فكثيراً ما يقف الكاتب ويقول إن هذا الحدث تصورته هكذا لكن الذي حدث مختلف تماماً وكأنه يرى مشاهد أمامه لشخصيات تتحرك وتخلق واقعها بمنأى عنه، ينهي الرواية في الفصل (44) بشكل كلاسيكي إلى أنه يتهكم علينا ليضع أحداثاً أخرى وتصورات أخرى ثم يعود ويضع المشهد الأخير في الفصل (60) لكنه يضع التصور الأكثر إيلاماً في الفصل الذي تلاه ليرسم المشهد الأخير بشكل مختلف.

لعب الروائي لعبة التصورات والتخمينات، فما فعله كان يجبرني على أن أخمن ما سيحدث، ويجعلني أيضاً لا أصدق ما يقوله حتى يقول لي أن هذا ما حدث، فتدخله بشخصه وسط السرد جعلني أنظر إليه كشخصية موجودة في الرواية لكنها غير مرئية.

تحاكي الرواية نهايات العصر الفيكتوري وتوضح الاختلاف المجتمعي المتباين بين الريف والمدينة وقدرة الريف على الحفاظ على النمط وتكريسه بشكل يجعله إلاه لا يجرؤ أحد على الاقتراب منه، وما يحدث في المدينة ومن محاولات تغيير متكررة، كما تصف الشخصيات الفيكتورية وصفاً دقيقاً وقوياً بحيث أن الكاتب يضع حدثاً ثم يقول لك إن نمط التفكير الفيكتوري لا يسير في هذا الاتجاه وهذا يدل على أن الكاتب حضر جيداً للرواية ودرس العصر والمجتمع بشكل جيد.

ربما يكون هذا التصرف من السيد جون، ناتجاً عن تركيبات وأحداث كثيرة، فحين يعشق الكاتب روايته ويتعمق فيها تصبح هناك تقاطعات في أفكاره فيكون لديه أكثر من تصور لكل فعل فيقارن بين التصور وواقع الرواية وهنا تكون مهارة الروائي بحيث يختار المشهد الذي يواكب نمط الشخصيات وظروف الزمن، ورغم أن الكاتب لجأ في أكثر من موضع لحدث ثم غيره بشكل مختلف فقد أقحمنا بشكل قوي لا في الرواية والشخصيات فقط بل في نوع تفكيره وتصوره لذا طرحت فكرة أنه موجود ضمن شخصيات الرواية لكنه شخصية مختفية تظهر حين تسير الأحداث بشكل مخالف لعصرها.

رواية ممتعة جداً بالنسبة لي لكنها ربما لا تستهوي البعض الذين يريدون أن يقرأوا رواية نمطية، تقع الرواية في 488 صفحة من القطع الكبير أنصح بقراءتها.

قراءة في كتاب “ذات” للكاتبة فلونا عبدالوهاب

أنا في غرقٍ منذ أن قلت أحبك ..

غارقة في الاحلام ..

في عمق صحراء عينيه ..

في خطوط يديه البعيدتين ..

التي لا أتشبث بغيرها .. رغم الضياع .

هنا وقفت لأدرك أن ما أقرأه ليس خواطر يكتبها البعض ليفرغ شحنة عاطفية طغت على شعوره، بل معنى أعمق مما تصورت حين أمسكت ذلك الكتاب النحيف بصفحاته الثمانين فأصبحت أدقق في كل جملة وأعيد قراءة الفقرة أكثر من مرة وبصوت عالٍ، لم يعجبني الأسلوب وحده بل وجدت شيئاً أجمل وهو عمق الشعور الذي كتبت به تلك الفقرات.

يذكُرها في ركن المقهى، يراها في كل كتابً أول صفحة، يحتضن نفسَه تحت المطر ليراقصها.. لا يتأخر عن جواب رسائلها .. 

تتدفق الصفحات بهذه السلاسة والعذوبة لتجرفك عبر أمواج المشاعر دون أن تشعر إلا بنهاية ذلك الكتاب الصغير في حجمه الجميل في معناه فهو يمثل عنوانه حرفياً “ذات” لذا أرفع تحية للأستاذة فلونا عبدالوهاب فمنذ زمن لم أقرأ هذا الشعور الجميل والمؤلم ..

قراءة في رواية “الغابة النرويجية” للأديب الياباني هاروكي موراكامي

أتذكر جيداً متى اشتريت هذه الرواية، ورغم أني اشتريتها استغرقت الكثير من الوقت لكي أفتحها وابدأ في قراءتها، لكن كنت مدركاً أنها رواية جميلة ستعجبني حين اقرأها، وبالفعل ما إن بدأت في القراءة لم أتركها حتى انتهيت منها، ثم عدت وأخرت كتابة المقال الخاص بالرواية لأكثر من أسبوعين، ولا أدري لماذا فعلت ذلك؟ حتى هذه اللحظة التي فتحت الكمبيوتر وشرعت أكتب.

تستطيع أن ترسم شكل المجتمع الياباني من خلال شخصيات الرواية ضمن الزمن المحدد لها بشكل واضح فشخصيات الرواية من الوضوح بحيث ترى شخصية مجتمع مختلفة بشكل حقيقي عن واقعك وقيمك وأخلاقك، ولا أقول ذلك لكي أنتقد الرواية، بل لأنه ساءتني الألفاظ البذيئة التي تخللت السرد والتي طرحت على لسان الشخصيات النسائية في الرواية، مما خلق لدي انطباع بأن المرأة اليابانية وقحة بذيئة اللسان، ولا أظن أن هذا التصور صحيح على الإطلاق، فلكل مجتمع قيمه وأخلاقه، ربما تكون الشخصيات النسائية في القصة متطرفة جنسياً، أو أن الكاتب أراد أن يصف مرحلة معينة كان فيها التحرر سبيله الجرأة والوقاحة في مسألة الجنس.

دعونا من كل هذا فالرواية جميلة تصف رحلة طالب يعاني مشكلة نفسية تحصره في شخصية صديقه المتوفى، حتى إنه لا يستطيع أن ينتزع نفسه من ذلك الوهم فيحب حبيبة صديقه ويخلص لها عاطفياً لكنه لا يستطيع أن يخلص لها جسدياً فيقيم علاقات عابرة مع فتيات شتى دون الالتزام بعلاقة ثابتة إلا مع تلك الفتاة الرمز التي كانت عاملاً مشتركاً بينه وبين صديقه المنتحر، تستمر محاولاته أن يجد له مكاناً في قلب تلك الفتاة التي تعتبره هو أيضاً العامل المشترك في حياتها والعنصر الذي لا تريد أن تخسره بعد أن انتحر حبيبها، فتشكل الرواية صورة معكوسة من المشاعر بين شاب وفتاة يعيش كلٌ منهم الأوهام نفسها، لكن الفتاة في النهاية لا تستطيع أن تتغلب على الذكريات فتقيم في مصحة ثم تنتحر، ويبقى الشاب في حالة من فقدان التوازن.

هناك ثلاثية ذكرت كثيراً في الرواية، الحب والجنس والانتحار، المشاعر تدور حول تلك الأمور، كتبت بإتقان يجعلك تندمج بأحاسيس الأبطال وتستطيع أن تقييم حالتهم، بل وتخلق المبررات لكل شخصية إن أردت فالتفاصيل مهمة حين تكون مرتبطة بالعاطفة والمكان كذلك، الألم والحزن والعزلة أمور تستطيع أن تعيشها خلال قراءة الرواية التي كتبت بمهارة عالية.

تقع الرواية فيما يقارب الأربعمائة صفحة من القطع المتوسط أنصح بقراءتها لمن هم فوق الثامنة عشر.

قراءة في المجموعة القصصية (حارس الجسد) للأستاذ هاشم محمود .

لا يخلو مجتمع من مشاكل، ولا يخلو البشر من الأخطاء والذنوب، ولو قسمنا المجتمع لرجل وامرأة لوجدنا أن المرأة تتحمل جل الذنوب في المجتمع كما أنها العنصر الضعيف الذي لا يستطيع التصريح بأخطائه أو رغباته المكبوتة، كما أنها تتنازع بين العاطفة والرغبة والأمل في شريك حياة يوفر لها الاستقرار العاطفي والجسدي، لا تختلف المرأة عن الرجل من ناحية الرغبة الجسدية إلا أن الرجل لا يحمل وزر خطيئته بعكس المرأة التي يحاسبها المجتمع على أخطائها ويحملها هي وأسرتها عار الخطيئة.

في هذه المجموعة القصصية حكايات متنوعة تشرح الواقع المسكوت عنه لدى المجتمعات العربية من الخيانات والعلاقات والرغبات الجنسية لترفع الغطاء عما يدور في خلف الكواليس لكنها تنطق باسم المرأة التي لا نسمع صوتها إلا ما ندر، في هذه القصص تصرخ المرأة وتشتكي رغباتها وأهواءها وتصف كل ما تشعر به من ألم ولذة ورغبة وخوف.

صوت المرأة عالٍ حين تقع في الشهوة وتستمتع، وألمها شديد حين تشعر بالخيانة، واستسلامها متوقع حين تريد الحفاظ على أسرتها وتماسكها، وحين تصرخ بصدى ما يدور في نفسها، وهنا تجاوز الكاتب الكثير من الحدود ليقول لنا أن المرأة كائن له صوت يجب أن نسمعه باهتمام، فهي الشريك الدائم وهي الحبيبة فلا يجوز أن نتجاهلها، بل يجب علينا أن نتقبل تصرفاتها وأن نجد لها الأعذار كما نفعل مع الرجل فهي لا تقل عنه من حيث التكوين ولا الرغبات، وأن نحمل كلا الجنسين المسؤولية بشكل متساوِ حين يكون هناك خطأ.

المجموعة القصصية متجاوزة من حيث الجرأة التي ربما لا يتقبلها القارئ، فالأستاذ هاشم محمود كتب بتجرد ووصف أمور تخص النساء بشكل جريء وغريب عن المجتمع، فلم يلجأ إلى أسلوب التورية، بل وضع الأمور في نصابها الصحيح فنجد الخيانة متجردة والشهوة عنيفة والخطأ صريحاً  والأمور النفسية التي تجول في خاطر أي امرأة واضحة، فحين تحدث نفسها عن الشريك تبدي الرغبة، وحين تتألم تبكي وحين تهان تصرخ، وحين تجبر تستسلم.

لم نتعود هذه الصراحة في الكثير من القصص التي نقرأها وتوضع فيها المرأة تحت المجهر، لأن الرقابة الذاتية لدينا تمنعنا من السير في هذا الاتجاه وتقف المحاذير المجتمعية والرقابية حاجزاً دون كشف الأمور المستورة وتناول القضايا الحساسة بشكل واضح وأنا هنا لا أدري هل أهنئ الأستاذ هاشم على صراحته أم ألومه على جرأته، وفي الواقع هو لم يأتِ بشيء غير موجود لكنه كشف الغطاء فقط.

تحوي هذه المجموعة خمس عشرة قصة تتناول قضايا تمس النساء في كتاب يقع في 164 صفحة، القصص ممتعة وسنجدها في الواقع بأشكال مختلفة، أنصح بقراءتها لمن هم فوق 18 عاماً .

غارقا في نفسي ..

غارقا في نفسي ..

http://ahmedalalawi-om.com/2023/05/08/%d8%ac%d8%a7%d8%a8%d8%b1-%d8%b9%d8%aa%d9%8a%d9%82-%d9%85%d8%b2%d8%a7%d8%ad%d9%85%d9%8c-%d9%8a%d9%82%d8%b8%d8%aa%d9%87/

لا شيء معنا نُكلل به نزق المساء ورتابة اللحظة، سوى الخيبة، والضحكات المنفلتة من هواجسنا اللاذعة”لم يبقَ سوانا يا جابر، لم تبقَ الزرقةُ معنا بعد هذا الغروب الشاحب؛ ذهبتْ حيث الليل، لترتاح  من يقظتنا، بقينا ننوس كسلًا على مسطبتنا؛ أين العابرون من هنا؟ كيف تواروا خلف الظلمة؟
 ولا شيء معنا نُكلل به نزق المساء ورتابة اللحظة، سوى الخيبة، والضحكات المنفلتة من هواجسنا اللاذعة.
هناك يا صاحبي خيط نوري، يُقسِّمُ الأفق، أنظر خيطَ خوفٍ وضياعٍ يُقسم مسطبتنا، نضحك، ونلف سجائرنا، نشعلها، وخلفها العالم يغور في عينك، تهتز من دخان الحروب، وتغضب من جلوسنا الطويل، الطويل. 
ألم تقل يا ابن عتيق: اللحظة المتشظية لا يعاد تشكيلها إلا على مسطبة، تُزاحم فيها رائحة التبغ سقفَ هذه الظلام؟ 
ها نحن هنا تحته نعدُّ خسائر المهزومين. كم مضى على الظلام؟ سألتكَ لكنك اتكأتَ وحدَّقتَ صوب أحلامك، تُعلق عينيك على صدر أيامنا، فوق مسطبة المتصوفة، وتسأل بعدها شاردًا: كم سيطول غيابُنا؟ وإلى أين تقودنا آمالنا الغريقة؟ 
نحن الذين اخترنا هذه البقعة، وهذا الانتظار الطويلَ الطويل الطويل، عبثًا نراقب الغيب، كما نفعل يومًا بعد يوم على مسطبتنا، عبثًا نُحملق نحو الأفق، ننتظر طلوع الذئب من قمرة اللاوعي؛ لنحاول استيعاب خيبة العالم، في آنية اللحظة.
تصرخ وتثور قفزًا، لستَ أنت وحدك ترمم الأيام، وتكتب وتعانق الأهواء، وتخسر؛ أصعدُ معك على ما تبقى من حجارة مسطبتنا، وأصرخ: “أنت معي”؛ مثل المتصوف يقاتل العُزلة بالنشوة؛ ليمضي إلى الوحدة.
أحمد العلوي 
AhmedAlalawi
الدوحة قطر، فبراير 2023

رد …
عزيزي لا شيء يبقى، فكل شيء محكوم عليه بالعودة إلى العدم، لا ألوان هناك ولا أشخاص فلا تستغرب أن تجرب بعض الذي سيحدث في المستقبل قبل وقوعه، فما نحن إلا ماء نثر على وجه الأرض ولا بد لنا أن نتبخر.

سنتذكر تلك الكلمات التي كنا نرسم بها المشهد كما كنا نرسم الحكايا، وكما نوجه بها الجدل والنقاش في لقاءاتنا المتتالية، نخرجها من أنفسنا العميقة، التي تسكنها الظلمة لنلقيها في الواقع، فتصرعه أو يصرعها، فندفن أحدهم، أو ربما تتصادم حين تخرج كلماتي من الأعماق، فتجابها كلماتك بدروعها وسيوفها، وتدور المعركة التي لا دم فيها، وتذكر أن الموت بلا دم نازف هو أقسى موت يمكن أن يعيشه بشر.

 حين تثور الحروب بين الكلمات يصبح للسيجارة معنى آخر، نشعلها وننفث دخانها وكأننا نخلق عواصف، ضبابٌ ودخان في ساحة المعركة، وحين تنزل الفوضى لعيوننا ننظر إلى بعضنا ونحن نرى المعركة، ثم نضحك على ذلك المشهد التراجيدي الذي خلقناه من العدم، سنتذكر كم من الكلمات ألقينا في فوهة الجحيم لنخلق بها واقعاً مختلفاً يمكننا أن نرسم من خلاله خيطاً من النور أو رائحة عطر تغير الحاضر، وتجعل الجميع يلتفت إلينا.

تمدد عزيزي على المذبح فلا خيار لك سوى أن تقدم نفسك قرباناً لآلهة لا تعرفها لكي تعبث بدمك، ستقول: تمدد أنت، سأخبرك حينها أني أعرف رائحة دمي فقد تمددت على مذابح كثيرة، لكنها للأسف لم تنجح أن تخلق لي النهاية المحتومة وعليك أن تجرب الشعور حين ترى الدم ينزف ليشكل دائرة حولك وأنت لا تتحرك، وأكثر من ذلك تعرف أنك لن تموت، فالمذابح مثل الفاكهة المحرمة ما إن تذقها مرة، تهوي للجحيم وتستسلم لكل المذابح التي تجدها أمامك.

 عزيزي لا أملك غير الأفق لأنظر إليه فالنظرات كلها غائبة عن الواقع وراء فكر مجنون يسيطر على عقل رجل بسيط، استطاع أن يخلق عالماً في داخله أعمق وذا أبعادٍ مختلفة، تحيطه أسوار وخنادق، ويقف أمامه جنودٌ لا حصر لهم ولا عدد، فيعود أدراجه لوهمه الجميل، لكنه في يوم من الأيام استيقظ ليجد أن كل أفكاره قد تحطمت وتهدمت الأسوار، ومات الجنود وأنه أصبح في الواقع، فرحٌ ورقصٌ وغنا، ثم اكتشف أن الواقع له أسوار أضخم وجنود أقوى وأقسى وأكثر، وأن الموت أخرج الشبح الذي يعيش بداخلي ليسيطر عليه.

أغلق عينيك عزيزي، وأستسلم لفكرة غبية واحدة لا تغيرها، الجمود رحمة لا ينالها إلا الأغبياء، لكنهم رغم غبائهم الذي يلومونهم عليه تكون أمامهم الأمور أبسط، فيقدمون ويبحرون، يخسرون ويضحكون كأن لا شيء قد حدث.

 لتصبح ابن العربي، سألبس الصوف من أجلك، ونجوب العالم بأقدامٍ حافية فالعالم لا يستحق أن نلبس له أحذية، علينا أن نطأه كما الخيول الجامحة لنترك أثرنا كندوب لا يستطيع أن يمحوها أحد..

jaberatiq

١٨ مايو ٢٠٢٣

ضـغـيـنـة ..

أحياناً يحمل الأشخاص ضغينة أكبر مما نتوقع دون سبب …

ضـغـيـنـة

لم تكن تلك الابتسامات التي كنا نتبادلها مصدر إعجاب بل كانت تخفي وراءها الكثير من الضغينة ، والكثير من الحقد ربما لا أحقد عليه أنا لكني دون شك أحمل له من الضغينة ما لا يمكنه أن يتصوره ، وحين أعود إلى الواقع لا أجد من ذلك الرجل أي تصرف يثير الضغينة في نفسي، منذ اللقاء الأول كان انطباعي عنه سيئاً، نظراته الحادة نبرة صوته المقرفة، جعلتني لا أتقبله على الإطلاق، لذا سعيت منذ ذلك اليوم أن أدمره فافتعلت المشاكل في كل عمل يقوم به وأنا متأكد أنه يعلم أني أقف خلف تلك الأمور المزعجة التي يواجهها ومتأكد أنه لو كان بمقدوره أن يدمرني لفعل، كم الفخاخ التي نصبتها له أوقعته في الكثير من المشاكل التي خرج منها مشوهاً ولولا أن علاقاته لا تزال جيدة ببعض المسؤولين، لتم طرده من العمل دون شك .

لا اعرف لما أبغضه ولا أعلم لما ينمو البغض في نفسي ويكبر كلما رأيته، لا أجد في نفسي سبب حقيقياً، ورغم ذلك أشعر بالسعادة حين يقع في مشكلة افتعلتها له، بل ربما يفوق شعوري السعادة ذاتها واصل لمرحلة النشوى والرضا عن النفس، فأكون راضٍ كل الرضى في تلك المواقف .

الغريب في الأمر أن ذلك الشخص لم يتهمني بشكل مباشر ولم يقل أي كلمة سيئة في حقي رغم معرفته بكم البغض الذي أحمله، وفي يقيني أنه إنسان خبيث يخفي ما يريد ولا يصرح به، بل حين أراه في العمل أشعر بأنه يخبئ سكيناً خلف ظهره .

أخبرني السكرتير اليوم أنه طلب مقابلتي، تجاهلت حديثه لكنه بعد نصف ساعة أخبرني أنه عاود الطلب، فطلبت منه أن يُأخره قدر المستطاع فأنا أتمنى أن يمل ويرحل عن مكتبي دون أن ألتقيه ، ورغم ما فعلت أنتظر ولم يغادر، اضطررت أن استقبله ولم يكن لقاؤنا طويلاً لأنه جاء كما يقول ليسلم علي ويشكرني بعد أن قدم استقالته من العمل، وبقيت كلماته ترن في أذني إلى الآن “أشكرك لأني تعلمت منك ما لم أتعلمه من غيرك”

ما أزعجني ليست كلماته الملغزة ولا ملامحه التي لا أطيقها ولا نظراته الحادة التي تستفزني، ما أزعجني أنه سيرحل وسأفقد برحيله تلك المتعة التي أشعر بها في نفسي حين أؤذيه، وأزعجني أنه سيرحل قبل أن أدمره قبل أن أشفي غليلي وأنا أراه ينهار .

لم أدع له بالتوفيق ولم أتمنَ له الخير حين أخبرني بأمر الاستقالة، حاولت استفزازه، كنت أريد أن تخرج من فمه أي كلمة لكي أصرخ في وجهه وأطرده من مكتبي لكنه لم يمنحني تلك الفرصة إلى حين صافحني قبل أن يخرج، حينها قال: أنت مريض نفسي ويجب أن تتعالج، سحبت يدي من يده وصرخت في وجهه: أخرج من مكتبي .

جلست على الكرسي واسترجعت كل ما افتعلت له من أذى ومشاكل، وشعرت أن كل ما فعلته لا يصل لأثر كلماته الأخيرة  التي جعلتني أتمنى أن أقتله قبل أن يخرج .

سيدتي .. لا اجد نفسي ..

سيدتي .. لا أجد نفسي .. فما بين لحظة سكينة تمر تأتي اللحظة التالية لتضج وتصرخ دون سبب، ولا تعود اللحظات لاستقرارها الذي كان يغيب طويلا ويأتي قصيرا، قصيرا جداً.

سيدتي أقلب نفسي بين ماضٍ عشته في ألم وحاضر أعيشه ألماً، وبين بين أجد تلك النفس المضطربة تضج بماضيها وحاضرها تتمرد لكنها تنكسر، تصرخ لكنها تدفن صراخها في صدري فيئن معها في نوبة حزن عميقة، لا تنتهي سوى بنوم متقطع يزعجني أكثر من السهر.

تلك قهوتي التي تعرفينها سوداء كالليل، قهوتي في الصباح أيضاً سوداء لا يتبدل لونها ولا يتغير مذاقها مع النور، تلك القهوة  “أنا” بكل اختصار، لم يتغير فيّ شيء، لا زلت سيئ المزاج تائه الفكر مشتت.

سيدتي  وأكررها دوما، أنت سيدتي، أحدثك كما أحدث نفسي، احشوا الكلمات في المفكرات التي أملكها بندائي لكِ، وأعرف أنك لن تسمعي تلك النداءات الميتة ، فلا يصل صوت الموتى للحياة.

اليوم أنت تتلبسن عقلي بذكرياتك، نظراتك، ذلك الفستان الأزرق وتلك الضفيرتين القصيرتين، تلك الصورة عالقة في ذهني لا تغيب، كقهوتي سيدتي لا يتغير طعمها ولا لونها، كذلك فستانك وضفيرتاك لا تتغيران في نظري، البراءة التي جعلتني أخرج من كل شيء سيئ لتلقيني فيما هو أسوأ.

أعرف ومتأكد أنكِ تعرفين ما سأقوله حين أراكِ صدفة في أحد الأيام، أنا وأنت نعرف ما يقوله الصمت بين قلبين، كانا معا في صمتٍ جميل، والتقيا صدفة ، في وقت لن يحمل شيئاً من الجمال، أحدهما لا زال يحب، والآخر ربما كان كذلك، لكنهما لا يريدان أن يلتقوا في صمتهم كالسابق.

لا تفكر ..

لا تفكر .. كثيراً فكثرة التفكير تنقلك لمسارات لا يمكن مغادراتها، لكن حين تفكر وتجد نفسك وصلت لنقطة توقف أبحث وأقرأ لكي تستمر في التفكير من منطلق صحيح فمجرد التفكير دون معرفة الآراء الأخرى يجعلك تدور في فلك واحد لا تخرج منه، مع الاطلاع والبحث تنتقل من فلك إلى فلك آخر ومن أفق لأفق، الاطلاع سيمنحك خبرة الآخرين ويطلعك على تصوراتهم فتنظر إلى الأمر الذي تفكر فيه من عدة زوايا وتراه من أبعاد مختلفة فتكتشف الثغرات وتبني أموراً صحيحة .

قراءة في كتاب “رواية السيدة التي سقطت في الحفرة” للكاتبة إيناس حليم

أنا سقطت في حفرة وأنا أقرأ هذه الرواية، وأنت لا بد أن تسقط في حفرة كما سقطت شخصيات الرواية في حفرها الخاصة، فكل إنسان له حفرة إما يسقط فيها بإرادته أو رغماً عنه، حفر تكمن في صدورنا تبلعنا بالكامل في لحظة ما، لا نستطيع أن نتحكم فيها بأنفسنا، تحفرها الحياة على مقاسنا.

“سقطت في الحفرة وغابت” سيدة في مدينة البحر الإسكندرية ابتلعتها الأرض يروي كل شخص حكاية مختلفة عنها فتمتزج الحكاية “الحقيقة” بالأسطورة والخيال والوهم، شادن تتوه بين الأطراف تبحث عن الحقيقة وتصدق الأسطورة وتطارد الوهم، وتستسلم لأقلامها حتى ينكسر آخرها على صفحة النهاية التي لم ولن تكشف حقيقة السيدة التي سقطت في الحفرة، لكنها تخلق حفرة بحجم كل شخص في صفحاتها وشخوصها، حفرة تجعلك تبحث عن حفرتك الخاصة التي تخاف أن تنظر إليها لكيلا يبلعك الظلام فتغيب كما غابت ميرفت.

بالنظرة المعكوسة للعالم التي رسمت في بداية الرواية، الفتاة التي تعلق قدميها على الجدار وتقف على يديها وتنظر إلى العالم بالمقلوب تستطيع أن تعرف أن الخيوط في تلك الرواية متشابكة مع تعقيد ناعم يشبه نسيج الصوف الذي تخلفه أبر “التريكو” فترسم دوائر ومربعات، تمائم وممرات مظلمة تختفي خلفها حقائق أو أوهام ساذجة نرى منها جزءاً من المشهد، أوهام لا ترقى أن تكون حقائق لكننا نسعى ورائها لنبحث عن المجهول في سطور الرواية نتتبع الخطوات، ندخل البيوت، نقابل الأشخاص ونحاورهم مع تلك الفتاة الحائرة التي تبحث في حفرة عن سيدة عملاقة اختفت.

تغرق الرواية في التفاصيل الصغيرة والوصف الدقيق، في الأدراج المغلقة في النقاط السوداء التي تتسع ويختبئ تحتها كل ما نخافه، بالفعل كنت أبحث وأنا أقرأ الرواية عن الحفرة التي سقط فيها كل شخص مر ذكره، ثم بدأت أبحث عن حفرتي وحفر من حولي، وارفع القبعة للكاتبة إيناس التي خلقت فراغاً في الرواية لكي يسأل القارئ نفسه أين حفرتي.

ربما لا يحب البعض كثرة التفاصيل في الرواية وكثرة الأساطير، لكنها تُكون حقيقة الاعتقاد لدى البشر حين يعجزون عن تفسير حادث ما لا يجدون له مبرراً أو لم يتمكنوا من معرفة حقيقته فيلجؤون إلى تبريرات تخرج عن الواقع ويستغل الموقف أصحاب الأهواء ليصلوا للشهرة ويتسلقون الحوادث.

رواية شيقة تقع في 311 صفحة أنصح بقراءتها.

مات الأول .. ورحل الثاني …

نشر في 10 أبريل، 2017

ظهر رغم المشاكل التي واجهته وتغلب عليها ومع قدرته العجيبة على تخطي العقبات لم يستطع أن يتخطى البكاء يبكي كطفل لأسباب عادية تمس مشاعره، أو تلامس جرحاً قديماً آلمه، رغم بكائه لا يزال صلباً في مواقف الشدة لا يهتز للصدمات، بل يهز الصدمات فينبهها بأنها لن تؤثر فيه ولن يجعلها المستفيد الأوحد بل سيستفيد منها، الصدمات التي مرت أكسبته الصبر والجلد والقوة والحنكة التي يواجه بها تعقيدات الحياة ومشاكلها دون ما إطالة تفكير يستنتج بشكل سريع ويعود إلى واقعة منتصر .

عندما مات ابني لم تدمع عيناه، كنا جميعاً نبكي بحرارة فهو الابن الأكبر الذي تعودنا عليه والذي أعددناه ليشاركنا مشاكل وهموم الحياة ويخفف عنا وطأتها عند الكبر، لم يبكِ أقسمت ابنتي أن أباها لا يحب أخاها أحمد أو بمعنى آخر لم يشعر بالحزن على وفاته رغم الحب الذي كان يبديه،  لم ألحظ على زوجي أي شيء سوى أن أول يوم لوفاة أحمد كان واجماً لا يتكلم ثم عاد إلى طبيعته فكان يتحدث معي ومع بناته وبعد أسبوع من هذا الحادث جاءني يمازحني فصرخت في وجهه

أين تلك الدموع التي تبديها عندما ترى موقفاً مؤلماً ألم يؤلمك موت ولدك، لم يرد !! أدار وجهه ورحل لعنته ألف مرة وآلاف اللعنات أرسلتها إلى السماء حين رحل ، ألا يشعر بما نشعر من ألم وضيق وكدر، الهموم التي سقطت على رؤوسنا بسبب وفاة ابننا الوحيد وهو لا يشعر .

لحقت به شددته من ثوبه سألته: أين دموعك؟ أجب، لم يلتفت لم يعرني اهتماماً فتشبثت بثوبه وأخذت أبكي التفت إلي أخيراً وقبلني على رأسي كعادته فحدثته بلسان ثقيل خالطه البكاء ألا تشعر بفقد ابنك، نظر إلي وهز رأسه بمعنى أنه يشعر

مر الأسبوع الثاني ولم ألحظ شيئاً إلا أن كلامه قل لكن ابتسامته الصامتة لم تفارق شفتيه ولا يحب أن ينظر إلى وجوهنا، جاء الأسبوع الثالث وكنا نجلس معه وهو منشغل بكتاب وكنا نـحدثه فيهز رأسه أنه يسمع ما نقول، ثم أسند رأسه إلى الكرسي وأغمض عينيه فرأيت فيه ما لم أره قط وكأنه يذبل .

شغلت عيناي بشيء أخر لكيلا أعكر عليه غفوته التي لم أتعود عليها ولم أرها من قبل .. أردته أن يرتاح أو يريحني من نظراته التي يظن أنها تنسيني ولدي لكن فضولي دفعني أن أذهب إليه فقمت من مكاني ومشيت بتباطؤ ، فكلنا ملأنا الضيق منه بعد وفاة أحمد، ولما اقتربت منه بدا شاحب الوجه كسته الصفرة أصابني الرعب وأمسكت يده فإذا بها باردة ، انقبضت أنفاسي وتسارعت يداي إلى وجهه اقلبه وأناديه خالد ، خالد ، فكان رأسه يتأرجح بين كفي كوسادة خفيفة لا تسكنها الروح صرخت بكل صوتي

خالد ، خالد

التفت اللي بناتي وتراكضوا ماذا حصل فسقطت عند قديه ابكي وهو لا يشعر بنا تداركت كبرى بناتي الأمر فاتصلت بالإسعاف ورافقناه إلى المستشفى وحينها عرفنا ماذا أصابه .. ضعف عام وانهيار عصبي حاد ، بسبب الحزن الذي لم يرد أن نشعر به في فقد احمد مكث في المستشفى أسبوعين وعاد بعدها إلى منزله غريباً لا يتكلم إلا ما ندر ولا يأكل إلا القليل فهو يمشي لا بل يتحرك كالريشة يحركه الهواء، خيال إنسان ما أن نلتفت عليه نجده يبكي في صمت تفضحه دموعه نحدثه فلا يرد إلا بكلمات أو يهز رأسه ويبتسم ابتسامة صامتة . وذات يوم كنت أرافقه إلى الطبيب حذرني بأنه لو بقي على تلك الحالة فسوف ينهار ولا يستطيع أن يستنتج ما سوف يصيبه ولم يختلف ظن ذلك الطبيب كثيراً فبعد يومين اتكأ على نفس الكرسي ومسك نفس الكتاب ثم رفع رأسه وأسنده على كرسيه وأغمض عينيه للأبد مات خالد هماً على ولده وقد اتهمناه إنه لم يحزن عليه أبدا أتعرفون ما الكتاب الذي كان يقرأه ، عفواً القصة التي يقرأها، قصة مدرسية من كتب أحمد كان قد ملأ الحواشي بحروف وقليل من النكت والكثير من الشعر وبعض الواجبات التي كان يجب أن يفعلها نعم هي أشبه بمذكرات أو ملاحظات كان يكتبها ابني ويبكيها زوجي فمات الأول وترك كلماته ورحل الثاني وهو يقرأها.

أنا والذكريات..

كانت تجلس هنا باستمرار صغيرة الحجم بفساتينها الصغيرة الأنيقة، تلقيها أمها كل يوم في نفس المكان، فتجلس تصفق بكفيها كلما علا صوت التلفاز بأغنية تضرب بكعبيها بارتجال غير منتظم وتهمهم بكلمات لا تجيد نطقها، تزحف وهي تمسك أجزاءً حادة تجرحني، أشعر بالألم وهي تستمتع بألمي حين ترى ذلك الخط يُرسم على الخشب ويشوهه، لا أنسى يوم وجدت أحمر الشفاه ملقى على الأرض كيف فعلت فعلاماته الحمراء شوهتني من الأرض وعلى امتداد يديها الصغيرتين .

أما شقيقها لا يعبث فيني كثيراً إلا في أوقات نادرة لكنه يقوم بفعل يزعجني، يصفق الأبواب بقوة فترتج جدراني ألا يعلم هذا الطفل العنيف لا أني قديم أَقدم من أسرته كلها، والده الغبي كان يفعل الفعل نفسه في صغره لكني كنت في ذلك لوقت أحمل الكثير من القوة وأستطيع التحمل أما الآن أشعر بأرجائي جميعها تهتز حين يصفق الأبواب، له تصرفات أخرى غبية لا يفعلها باستمرار كأن يحفر ثقباً في جدرانِ أو أن يركلني بالكره بعنف وبحركات متتالية حتى أشعر بالترنح.

الوحيدة التي أحمل لها ذكريات طيبة هي أمهم ،لم أرها وهي صغيرة، جاءت بعد أن تزوجها والدهم، منذ وصلت كانت حانية، تتحرك في داخلي باستمرار إلى أنها تتحرك برفق ورغم كثرة مشاغلها لا تهملني وتهتم بي كثيراً خصوصاً بنظافتي وأناقتي، فتلمعني وتجملني وتزينني باستمرار، وُجدت لتشعرني بالراحة فزوجها الذي لا يكف عن الطرق والقطع في ورشته التي هي جزءٌ مني يسبب لي الكثير من الأذى وحين يعطب شيء فيّ يتكاسل ويتلكأ ولا يصلحه وحتى لو أصلحه لا يفعل ذلك بعناية كافية، بل ليسكت زوجته التي تلح عليه ليصلحني.

رغم كل ما تفعله هذه الأسرة من إزعاج وكل ما تتسبب فيه من خراب وعطب في أركاني إلا أني كنت أريدهم أن يبقوا معي، بمجرد أني احتويهم أشعر بالدفء، وجودهم وأصواتهم وحركتهم تعطيني الأمل والشعور بأني أصلح للحياة ولم يحن وقت موتي، لم يمنحوني تلك الحياة الدائمة التي كنت أتمنى، في يوم من الأيام جهزوا حقائبهم، فقط حقائبهم، ظننت أنهم سيمكثون في الخارج يومين أو ثلاثة أو أسبوع على أكثر تقدير أحصل خلالها على الراحة التي أريد، الأيام طالت ولم يعودوا، شعرت بالسكون يلفني والصمت المميت يحيط بي من كل مكان، طالت الفترة فبدأت أشعر بتلك الحشرات الصغيرة تتحرك في داخلي، تلك الحشرات التي تكاد أصواتها لا تسمع تبحث عن الشقوق لتعيش فيها، تنخر عظامي بأنيابها الحادة، ورغم ذلك لم أتضايق كثيراً فقد بدأت أشعر بالأشياء تتحرك، رغم انتشار الغبار لم أشعر بالقذارة فما زلت نظيفاً.

الأيام مرت ولم يعودوا، لا نور يضاء ولا كعبٌ صغيرةٌ تضربني ولا طفل أهوج يصفق أبوابي ولا رجل أرعن يتسلى حين يقطعني بآلاته الغريبة، بقيت هكذا حتى مر طفل وألقى حجر فنكسر زجاج أحد نوافذي كأنه فقأ عيني حينها، شعرت برعشة من البرد تلفح ضلوعي، بعدها مر طفل آخر وألقى حجر كسر نافذة آخر وتوالت الأحجار، ثم بدأت أشعر بهم يتسللون داخلي، أعرف أنهم لا يأتوا لكي يضعوا أكاليل الزهور، في أحد المرات تسلل متعاطي للمخدرات مكث فيني أربعة أيام، كان لا يكلف نفسه أن يذهب للحمام لقضاء حاجته، يفعلها في أي زاوية قريبة منه ، كنت أريد أن أصرخ في وجهه “أيها القذر” لكن لا جدوى، أحياناً يتسلل بعض العشاق أو بعض الأطفال، الآن أشعر بمدى قذارتي “أنا قذر” منذ أن حملت تلك السيدة الجميلة حقائبها هي وزوجها وأطفالها وخرجوا، لم أشعر النظافة، ابكي مما أنا فيه، كل شيء مهمل ومهشم ، حتى ذلك الغبي الذي كان يصلحنِ بتثاقل أصبحت أشتاق إليه على الأقل كان يهتم بي حين أصاب بحجر، ويا ليت تلك الصغيرة تعود وتضرب بكعبيها لتوقظني كل صباح، سأهديها أحمر شفاه جديد لكي ترسم تلك الخطوط على أرضي وجدراني وكي أسمع صوت أمها وهي تصرخ بها وتأتي لتنظفي بلطف.

 مات الأمل مع مرور الأيام ولم تتكسر نوافذي فقط، أبوابي تكسرت وأكثر من جدار، وأصبح الكثيرون يمرون وينظرون إلي باشمئزاز وخوف وريبة، لا انتظر الآن إلا أن يلقي فيني أحدهم عود ثقاب ليكتب شهادة وفاتي.

مساء الخير عزيزتي ..

مساء الخير عزيزتي: الرحيل هو الرحيل، أما أسبابه فتتوزع في اتجاهات مختلفة، لا أقول هذا الكلام لأبرر لنفسي أي تصرف لكني أقوله لكيلا تجهدي نفسك في تبرير أمور حدثت، الرجل يا عزيزتي يشعر كما تشعر المرأة حين يتغير المزاج ويتغير الجسد،  هناك لغة نخفيها دوماً عمن نحب، لكنه يشعر بها، لغة لا تُنطق، يشعر بها المحبوب، حين تتغير النظرات، وحين تختفي الأهمية، وحين تتغير رائحة الهوى، الجسد حين يقترب ممن يحب يكون منتشياً، وحين يقترب ممن يخاف ينكمش، حين يجد من يحب يتهيأ لاستقباله، وهذا الشعور الذي فقدته منذ فترة ليست بالقصيرة.

كنت أتابع التغير الذي يحدث في صمت، وأتتبع المواقف، وصلت لبعض التفسيرات، وتركتها على الهامش، كنت أعرف أني سأعود إلى الهامش لأنقب فيه، فمرحلة الرحيل عند الأحبة يا عزيزتي لا تحدث بين يوم وليلة، بل تمر بمراحل، لذا لم أستعجل، رأيت المراحل كلها، وفي النهاية أردت أن أختصر لكِ الوقتَ والجهد، فاختلقت المواقف التي تريدين لكي ترحلي.

كوني في سلام ولا تفكري كثيراً، فأنا في عزلتي التي أحبها، يصاحبني فنجاني وأقلامي وتلك الأفكار المجنونة التي تعرفين، سأنسج منها أشياء كثيرة، أشباحٌ وأطياف وقصص، سأكتب سأجعل للأوراق الرخيصة قيمة، ستقرئينها لا شك كما قرأت تفاصيل يدكِ عينيكِ، الريبة، الجفول، رسائل كتبت على جسد كنت أقرأها بوضوح، الآن لن أقرأ شيئاً من تفاصيلك، فالتفاصيل تكمن فيها الشياطين التي تخلق الأعذار الغريبة والمستفزة.

كلاكيت ثاني مرة ..

جلس بجوارها ورغم أنه لم يسألها، لكنها شعرت بسؤاله : لماذا تبكين .

هناك شيء يتحرك في نفسي يؤلمني، أحدهم استطاع أن ينتزع مني السعادة، كنت أظن أنه السعادة ذاتها، ظننت أنه يشعر بي .

عادت إلى البكاء من جديد ..

ثم صرخت ، كنت أحبه بجنون ، لكنه رحل .

كان ينظر إليها ودت لو يسألها: هل كان يحبك بجنون كما كنت أنتِ تحبينه ؟

أجابت دون أن يطرح السؤال: الرحيل يدمر كل التوقعات، ويقتل الأمل، الرحيل يجعلني أقسم أني أحبه أكثر من السابق، هل تعرف معنى الرحيل؟ أظن أن الرجال لا يعرفون ما الذي يصنعه الرحيل في قلب امرأة، لا يعرفون أن الحب حين يسكن في قلب النساء لا يترك مجالاً لغيره، فترغب أن تضع الرجل في كل أرجائها وهذا ما فعلته، لقد وضعته في كل أرجائي، لكنه رحل .

ابتسم رغم أن ألمها قد طغى على المحيط .

أنت أيضاً رجل، لا بد أنك دمرت امرأة، ووأدت فيها الشعور بالحياة، أنت رجل تجلس بجواري وتسألني، لماذا أبكي، ارحل عني لا أريد أن أتحدث مع أحد .

سمعها لكنه لم يتحرك، كانت ابتسامته تكبر، وعيناه تتألق أكثر .

نظرت إليه بغضب وقالت: هل تتوقع أن أعتبر جلوسك عندي مواساة، أم تتوقع أن أرتمي في حضنك لتمنحني السكينة، أم أن أقول لك كل أسرار الدموع التي تنزل، أو أطلب منك أن تساعدني، ماذا تريد؟

ابتسم لكنه لم يتكلم ولم يتحرك .

شعرت بوخزة في قلبها، ابتسامته بدأت تطعنها، شعرت أنه يستهزئ بدموعها، قامت ونظرت إليه بغضب ثم صفعته، دُهش من تصرفها لكنه لم يتألم، لم يتحرك من مكانه، ألقت بجسدها بجواره وغطت وجهها بيدها وانخرطت في البكاء، ثم قالت وهي تدفن وجهها بين كفيها: أنا آسفة لا أستطيع التحكم في تصرفاتي .

نظر إليها وابتسم .

صرخت في وجه لا تبتسم، بدأت تضربه بكل ما أوتيت من قوة ثم هدأت وقالت: أنا آسفة، لكنها بعد ذلك قامت ورحلت دون أن تنظر إليه .

الحياة رَحلت معها، لم يؤلمه رحيلها الآن، بل رحيلها منذ سنة، حين قال لها إنه يحبها، لم تلتفت إليه في ذلك الحين وقالت بهدوء وبمزاج عالٍ: أنا لا أناسبك، نظرت إليه بعدها وابتسمت وهو يحترق، لم تشعر بنيرانه ولم تعرف ما الذي فعلته حين أدارت له ظهرها ورحلت، الآن لم يأتي ليشمت ، بل هي من طلبت منه الحضور، تحدثت واشتكت، وهي من فقدت السيطرة على أعصابها، وصفعت شخصاً بجوارها وضربته، ثم أدارت له ظهرها ورحلت، شتان بين ذلك الرحيل وهذا الرحيل، في السابق تركته أشلاء، وفي الحاضر رحلت وهي تلملم أشلاءها .

لم يتحدث لأنه يعرف أن الصمت كان أفضل من الحديث، يعرف أنها ستقول له أنها تتألم، ويعرف مصدر ذلك الألم، فمن منحها ألم الحاضر هو من منحها الهدوء في السابق ليدير لها ظهره ويرحل .

الصمت كان في المرة الأولى مؤلماً ، وافي المرة الثانية أيضاً مؤلم، لكنه يعرف أن ما وصلت إليه لن يمنحه قلبها ولو منحها قلبه من جديد، فقلبها أصبح عند شخص آخر سيطارده ويبحث عن أي شيء يخصه، سيزورها في أحلامها ويقظتها، وسيحتل كل ذكرياتها .