الرواية بين النقد والرأي، ومشاعر الكاتب.

حين يفرغ المؤلف من روايته، ويطرحها للعامة لا يحق له تقييم العمل، فمهما كانت قناعته بالعمل لا يحق له أن يحكم عليه، حيث إن العمل صدر منه، وتقمص شخصية أبطاله، وفي هذه الحالة يكون حكمه منحازاً للعمل دون أدنى شكل، فأي رأي سيمتدح فيه روايته، يكون رأياً سلبياً، حتى لو كان العمل رائعاً بالفعل، مجرد أن يسلب الكاتب حق الجمهور في إبداء الرأي أو تقييم العمل يكون قد تدخل في قرارهم بالحكم على الرواية.
القرار المهم الذي يجب على الكاتب اتخاذه في تقييم العمل هو مدى ملائمته للنشر، وهل يصلح للقراءة، أو لا يصلح، والعمل والجهد كله الذي يقوم به الكاتب، من كتابة وتدقيق وتصحيح ومراجعة، يفعلها لكي يخرج العمل في أفضل صورة ممكنة، وبعد النشر ينتظر رأي النقاد والقراء في العمل، ويجوز له إبداء رأيه فيما يقال ويجوز له أن يدافع عن عمله، ويبرر كل شيء طُرِح من قبل النقاد والقراء دون حرج، فإيمان الكاتب بالعمل وما بذله من مجهود يعطيه الحق أن يدافع عن عمله الأدبي دون رفض النقد بشكل عام، ودون أن يعترض على نقاط الضعف التي يصل إليها النقاد في العمل، فالنقد لا يجرح العمل إلا إذا كان العمل سيئاً، أما إن كان العمل جيداً أو مميزاً، فإن النقد بين للكاتب نقاط الضعف التي لم يلمسها هو شخصياً، لذا يجب أن يستمع الكاتب لرأي الناقد بحرص، ويرد عليه بإتقان بما لا يخرج عن صورة العمل، أو يحول الصدام مع النقاد من صدام فكري إلى صدام شخصي.
من المؤكد أن العمل الأدبي يتجاوز صاحبه كما في باقي الأعمال الفنية، ورغم أنه يحمل اسم صاحبه، إلا أنه يصبح مشاعاً بعد طرحه في السوق، ويملك كل ناقد أو قارئ نظرته الخاصة في التقييم، الآراء التي تطرح تناقش ذلك العمل من زوايا مختلفة وفئات مختلفة، فالنقد مثلاً له مدارس كثيرة تحمل كل واحدة منها وجهاً مختلف في قراءة النص الأدبي، وكذلك أذواق القراء تختلف بحسب اهتماماتهم وثقافتهم، واستمتاعهم بالعمل، وللقراء ميزة على النقاد يجب أن لا يتجاهلها الكاتب، لأن القراء هم الجمهور الذي يخاطبه الكاتب في روايته، فحين يقول قارئ هذا عمل ممتاز، أو هذا عمل ضعيف، لا يستدعي ذلك الإحباط أو الغرور، بل يستدعي أن ينتبه الكاتب لجوانب عمله القوي منها والضعيف، فرأي الجمهور رغم أنه غير احترافي إلا أنه الرأي الذي يجعل للكاتب مقبولاً أو مرفوضاً من قبل الجمهور.
الكاتب يعيش مع شخوص الرواية ويتقمصها، ومهما ظن الكاتب بعد زمن أن تلك الشخصيات التي كتبها زالت من تفكيره فهو مخطئ؛ لأن تأثير الشخصيات ينطبع في عقله ومشاعره هكما انطبع على الورق، ومهما طال الزمن يبقى تأثير تلك الشخصيات فعالاً، حين يستمع الكاتب لنقد أو رأي يمس روايته، لذا يجب أن يتعامل الكاتب بحذر حين يتلقى الآراء المختلفة وعليه أن يراجع قدراته لكي يُوصل الصورة الصحيحة التي يريدها أن تصل للجمهور، وهذه النقطة تسبب الكثير من القلق لدى الكُتاب، فحين تكون الصورة واضحة في عقل الكاتب ولا يستطيع أن يوصلها كما يتخيلها للقارئ، تصبح هناك فجوة بين الفكرة والسرد، بمعنى مهما كانت الفكرة صحيحة لدى الكاتب ولم يوصلها للقارئ بالشكل السليم ستشكل صورة مختلفة في خيال القارئ عما هو في خيال الكاتب، فيسير التفكير في اتجاه مختلف عما أراد الكاتب أن يوصله للجمهور في عمله الأدبي.

دراسات وأبحاث أدبية ..

قراءة في بعض الدراسات التي تنقد وتحلل الأعمال الروائية.

قرأت دراسات في تحليل الروايات وبالتأكيد تتناول هذه الدراسات بناء الرواية، أسلوبها وعناصرها، وتتطرق للكثير من التفاصيل والمقارنات بين العمل الذي تقوم عليه الدراسات وأعمال أخرى مشابهة أو قريبة وتحمل العناصر نفسها، الدراسات التي قرأتها تذكر المدارس التي ينتمي إليها بعض الكتاب كمرجعية، وهذا شيء جيد يُمنهج العمل الروائي ويضع له قوالب متنوعة ومختلفة ومتطورة، وقابلة للتحول في المستقبل.

تتناول الدراسات المكان والزمان والشخصيات والأساليب والتفاصيل واللغة والحبكة، بأسلوب تحليلي دقيق والجيد في هذه الدراسات أنها تتناول الأعمال الأدبية التي بها مضمون قوي وصحيح ككتلة روائية مبنية بشكل سليم، ولا اختلف مع الباحثين في هذه الجوانب، ولا أنكر عملهم، بل أستفيد شخصياً من هذه المواد القيمة، فهي تبين الكثير من الجوانب الخفية في الرواية محل الدراسة وتفكك عناصرها بشكل يثير الإعجاب.

فقط لدي ملاحظات لا تمس الدراسات، وهي تعني بالكاتب وكيفية تشكيله للرواية، فهو إنسان له ثقافة ومرجعيات ولغة، وحين يبدأ السرد تكون الأهمية الأولى هي العمل الذي يشتغل عليه، حبكة الرواية وشخوصها وأحداثها تفرض على الكاتب أن يخرج أحياناً عن السياق الذي أطر فيه الأفكار الأساسية قبل البدء في الكتابة، مثلاً التعاطي مع الزمن يختلف من عمل لآخر، في بعض الأعمال يكون الزمن عنصراً واجب الحضور، وأخرى يكون الزمن فيها مموهاً أو مائعاً، وكذلك المكان أحياناً يكون محيط يحدد موقع الحدث أو القضية وأحياناً أخرى يحمل الكثير من التفاصيل، ويحدد هذه الأهمية العمل نفسه ومدى خدمة تلك العناصر للرواية، فلو افترضنا عملاً أدبياً توثيقي يتناول مرحلة في الحرب العالمية الثانية سيكون الزمان والمكان واضحي المعالم، بعكس لو كان العمل يناقش قضايا اجتماعية، فيخف وضوح الزمن.

كذلك اللغة، فلغة الرواية البسيطة تجعل القراءة تنساب بسلاسة، لكنها تخضع لمعايير واعتبارات، منها مثلاً المجتمع الذي يعيش فيه الكاتب ويريد أن يوصل فكرته له، عليه أن يجعل اللغة سلسة بعيدة عن التقعير والكلمات الغير مستخدمة والمصطلحات الغريبة، ولو اضطر الكاتب لاستخدامها عليه أن يضع لها تفسيراً، كذلك تخضع اللغة لدرجة إجادة الكاتب للغة المستخدمة، وتخضع أيضاً لأسلوبه هو شخصياً، هل هو سلس أم عميق أو مبتذل، الرواية تعكس شيئاً من الكاتب حتى لو أراد أن يخفيه، واستخدام اللغة مهم في الرواية؛ لأنه الأساس الذي ينقل من خلاله الكاتب أفكاره للقارئ فحين تكون اللغة ضعيفة لن تصل الفكرة وحين تكون اللغة مبتذلة يصبح العمل مملاً، التوازن يضعه الكاتب بناءً على تصوراته الشخصية فيما يرى أنه يخدم العمل.

على هوامش الرواية ..

لا توجد هوامش مكتوبة في الرواية إلا لتفسير أمر أو شرح معنى لكلمة، فالرواية لا تعتمد على الهوامش، لكن حين تدقق النظر في هذه المسألة تجد أن كل شخصية هامشية في الرواية هي هامش للرواية، وكل فكرة جانبية هامش أيضاً فهوامش الرواية غير مكتوبة على حواشيها، بل متضمنة داخل الرواية يبين الكاتب من خلالها نقطة واحدة، أو يأصَّل فكرة.

الرواية نسيج يبدأ من أصغر نقطة ويسير بشكل منتظم حتى يكتمل، فتلك الأمور التي أسميها هوامش غير مكتوبة على الأطراف تدخل ضمن نسيج الرواية لتكمله أو تزينه، فيستخدمها الكاتب بشكل غير منتظم في الرواية ليكمل الصورة.

الرواية .. ما تفرضه وما تنفيه ..

تحكمنا النصوص والقضايا التي نطرحها في الرواية، وليس صحيحاً أننا نتحكم في الرواية بشكل تام كما يقال، النص الأدبي محكوم بفكرة أو طرح معين، أو تحدده القضية أو الحدث أو الشخصية التي يناقشها الكاتب في روايته، فيضع إطاراً فكرياً محدداً لتلك الرواية، ومن الصحيح أن الكاتب يقيد نفسه بنفسه، لكن ذلك التقييد يكون مفيداً في أحيان كثيرة، خصوصاً إذا كانت القضايا التي يناقشها ذات طابع خاص، فلو شط وترك فكره يتجول دون إطار محدد سيخرج لا شك عن سياق الرواية، ولن يحقق تلك السلاسة التي تجعل القارئ يسترسل في الحدث بشكل مريح.

أحيانا تحكمنا الفكرة، مثلاً لو أن القضية التي تطرحها محلية لا يمكنك أن تتجاوز القيم والأعراف الموجودة في المجتمع ولا معاير الأخلاق التي تحدد صيغة الخطاب الموجه للقارئ بحيث تخاطب الموروث الثقافي لدى ذلك المجتمع دون تجاوزه أو إدخال أي قيم شاذة، وهذا لا يعني أننا لا نطرح الأفكار الجديدة، على العكس يجب أن تطرح، لكن بالصيغة التي تجعلها مقروءة ومؤثرة، ولا تكون مصدر شذوذ في العمل، هذا بعكس أن نكتب رواية خيالية، فحين ندخل الخيال في العمل، نفتح أمامنا كل مساحات الحرية في معالجة الأمور الحساسة والعلاقات، أو أي شيء بشرط أن ما نكتبه يخدم العمل ولا يشوهه.

أنا أدعي أن الكاتب هو رب الرواية، يحيي شخصياتها ويميتهم، وهو من ينفي ويثبت ويُبعد ويُقرب كل ما يريد، لكن يقيني في هذا الأمر يختلف اختلاف كلي عما ادعيه ، فالرواية حين نبدأ فيها ننطلق بسرعة فمعظم الأحداث والشخصيات تكون مرسومة في عقولنا، نسترسل في البداية، ننسق أحداثه ونرتبها ونجمع بين الشخصيات، ونفتعل القضايا في الوسط، وهنا تكمن المشكلة فالكاتب بعد أن ينجز البدايات يظن أنه متحكم تماماً في الرواية، إلا أنها تبدأ من حينها تتحكم به، فلا يستطيع أن يتجاوز الشخصيات التي رسمها والأطر التي وضعها، ولا يستطيع أن يتخطى شخصية مؤثرة مثلاً، دون أن يضع أسباباً كافية ومقنعة، ولنفرض أن هناك شخصية مؤثرة يريد الكاتب أن يبعدها عن روايته، لا يمكنه أن يتجاهل ذكرها دون سبب يقنع القارئ، ولو أهملها دون سبب يكون هناك خلل في بناء الرواية والحبكة.

لذا فإن الرواية تتحكم فينا كما نتحكم فيها، وهذا التوازن الذي يحدث يضع النص الروائي في حدود العقل والمنطق، كما يحق للكاتب أن يؤلف كل شيء في الرواية يكون الحدث في الرواية محسوباً بدقة بعد أن نتجاوز البدايات، ويقيدنا في الكثير من الجوانب.

 خلق أحداث من واقع مختلف عن الرواية يجعل بناء الرواية مختلاً أو مهزوزاً، وفي أغلب الأحيان يعتمد الكاتب على إقناع القارئ بالحدث، حين يقحم قضية أو شخصية جديدة في الرواية لم تكن موجودة، ولم يضع لها مؤشرات، فالأحداث تبنى بناءً على شخصيات الرواية وعواملها النفسية، والمؤثرات التي تقع عليها.

الرواية التي تستقي أحداثها من قصص حقيقية يجب ألا يضع الكاتب فيها أي حدث مفتعل، أو يقحم فيها شخصية لا تناسبها، وعلى الكاتب أن يستخدم مهارته في صياغة الرواية ليضفي عليها واقعاً جمالياً، أحياناً يحتاج الكاتب أن يكثف الشرح في نقطة معينة لكي يوصل للقارئ الأسباب أو الدوافع التي حركت الأحداث أو أن يصف بتركيز مشاعر الشخصيات لتحقيق القيمة المعنوية في ذهن القارئ لذلك الحدث ومدى تأثيره في المجتمع.

النقد البناء ..

تستطيع أن تكتب أية فكرة تخطر على بالك، لكن حين تنشرها بشكل عام ستحتفظ بجزئية بسيطة فقط، وتفقد حقوقاً أخرى، تحتفظ بحقك ككاتب للفكرة، وتمنح الآخرين حق القراءة والنقد، إذا كنت لا تستطيع تحمل هذا، عليك أن تحتفظ بما تكتب في أحد أدراج مكتبك.

 النقد عملية تصحيح وله أساليب كثيرة ومدارس ونظريات وفلسفة، فكرته في الأساس بسيطة جداً، وهو إظهار جوانب الضعف أو الخطأ في أي عمل، ربما يتطور النقد ليصبح فكراً، فيبين جوانب الضعف، ويضع تصوراً لتصحيح الخطأ، وفي النهاية يكون النقد قد حقق هدفه الرئيسي وهو تصور عمل أفضل في المستقبل.

 الكثير من الكتاب والأدباء يعانون الانتقاد، فكما ينحرف بعض الكتاب عن المسار الصحيح، ينحرف بعض النقاد أيضاً، وتصبح أقلامهم معاول هدماً وتجريحاً، وربما تتحول أقلامهم من نقد العمل إلى نقد الكاتب في شخصه، هذا الشيء لا يفقد الأعمال الجميلة بريقها ولا يقتلها.

للقارئ وجهة نظر، ويمكنه أن يقارن، فإن كان النقد صحيحاً سيجد صدى لدى لديه، وإن كان خاطئاً سيتجاوزه دون اهتمام، أما مسألة التطرق للأمور الشخصية في عملية النقد، فهذا خطأ بحت يتعمده بعض الناقد، فلا يعنينا الجانب الشخصي للكاتب في شيء، الذي يعنينا هو ما يطرحه على الساحة من أعمال وقيمتها الفكرية.

 على الكاتب أن يتقبل النقد بصدر رحب، ويمكنه أن يأخذ بما يقوله الناقد أو يتجاهله، وفي كلتا الحالتين له حق النقاش والرد، وليس من حقه أن يرفض النقد، فالنقد مرحلة مهمة جداً من مراحل التطور الفكري، وعندما يقوم نقاش بين طرفين، ينحاز الجمهور للكاتب أو الناقد، أو ينقسم فيؤيد بعضهم الكاتب والبعض الآخر يؤيد الناقد، وهناك فئة من الجمهور ربما تبني أفكار جديدة، وتخرج بتصورات أفضل، وعملية الأخذ والرد هي حراك فكري له نتائج إيجابية تنعكس على الساحة الفكرية والثقافية في المجتمع.

 غياب النقد عن الساحة الأدبية يمكننا أن نعتبره كارثة فحين يغيب النقد عن الساحة الأدبية لا تمحص الأعمال التي تطرح ولا تناقش ولا يُرد على الأفكار الغريبة والشاذة، وستعاني الساحة الأدبية من الفوضى، القاعدة الصحيحة تقول إن الشيء يتميز بنقيضه، فالكاتب هو الشيء والناقد هو النقيض، فإن كان العمل الأدبي قوياً يميزه النقد، وإن كان ضعيفاً سيقتله، الفكرة القوية تبقى قوية وإن انتقدت، والضعيفة لا تتحمل النقد، ولا يمكنها الصمود.

 لنعود إلى الأساسيات، الأساس أن يكون هناك عمل أدبي، بعد ذلك يأتي النقد ليبين جوانب الضعف والخطأ في العمل، ثم مرحلة الرد والنقاش، وبعدها تتكون الصورة كاملة لدى المتابعين، ويُحْكَم على العمل بالنجاح أو الفشل، أو تقيمه وتصنيفه (ضعيف، جيد، جيد جداً، ممتاز) وعلى هذا يكون النقد هو المرحلة الأهم في تقيم أي عمل أدبي على الساحة.

النقد من منظور إلهي ..

أنهيت قراءة كتاب “موت الناقد لـ رونان ماكدونالد” منذ فترة طويلة وكتبت هذه السطور لكني لم انشرها سابقاً، ولن أعلق كثيراً فمادة الكتاب جيدة بها الكثير من المحاور المهمة التي سيستفيد منها من يقرأه، يتناول نظريات عدة منها نظرية موت الناقد عبر مراحل مختلفة من خلال كُتاب ونُقاد وأكاديميين بين ضفتي الأطلسي، إنجلترا والولايات المتحدة، وينقل الكثير من الآراء لكل مرحلة مر بها الأدب والجمال والثقافة منذ بداية القرن الماضي حتى نهايته، يتعاطى مع النقد بشكل موضوعي في الكثير من المواقع، إلا أنه عاد في نهاية الكتاب لينصب الناقد إله للأدب واللغة والجمال.

نقد تقويمي نقد تحليلي نقد فني إلخ.. ما لم يتطرق له الكاتب هو تعالي النقاد وبيع أقلامهم ومحاباة الأسماء الكبيرة التي يخشون المساس بها، وهذا الأسباب أثرت أكثر من غيرها، والتي دعت المجتمعات الثقافية والأكاديمية والشعبية لقتل الناقد كصورة من صور الانتقام “من وجهة نظري، لا أرفض منظومة النقد التي تدعو للارتقاء بالعمل الأدبي لكني اقبل أن ينصب الكاتب نفسه إلهاً في الرواية، فيخلق ما يريد ويقتل من يريد ويفعل ما يشاء لكي يعطي العمل قيمة إضافية، يصنع الأحداث ويكرس المشاعر، ويركز النظر على نقاط يريدها أن تصل للمتلقي من خلال مقدرته الإلهية المتواصلة في العمل وجهده، وحين يتأله الناقد يتعامل مع المخرجات الأدبية تعامل الأب المسيطر والإله لحاكم.

حين ينصب الكاتب نفسه إلهاً يُمكنه ذلك من الوصول لهدفه، وحين ينصب الناقد نفسه إلهاً يخسف بكل ما يراه غير مناسب من منظوره الشخصي، ويغفل أن العمل الأدبي مر بمراحل، واحتاج إلى مجهود وعمل طويل متواصل لكي يخرج إلى النور، بينما يضع الناقد نقده في جلسة في مقهى لا تتجاوز الساعة، ليموت الناقد أو يعيش لا يهم، المهم أن تُراجع المهام النقدية كما تراجع الأعمال الأدبية، وأن توضع لها معايير كما وضع للأدب معايير وشروط.

“الناقد كما الأستاذ يوجه والتوجيه لا يحتاج إلى إبداع بقدر ما يحتاج إلى مهارة ومعرفة وشعور وإدراك”

الرواية ..

الرواية تعتمد على الإبداع، لم تكن منهجاً أكاديمياً فهي حكاية وفكر وأساليب أخرى، الجميل منها هو الذي يرفع لذة وشهوة القراءة لدى المتلقي، فإن كانت تحمل قيمة فكرية استطال زمانها وامتد، وإن كانت بسيطة رحلت مع زمانها.

الرواية: الكاتب ..

لا شك أن كاتب الرواية هو إله الرواية، يحي فيها ويميت ويفعل فيها ما يشاء دون أن يكون هناك حدود لإرادته سوى جودة وحبكة الرواية، فيخلق الشخصيات ويصنع الأحداث التي يسيرها بما يناسب الرواية التي يكتبها، ولديه عدة عناصر عليه أن ينسقها ويربطها سوياً، الشخصيات، الأحداث، الزمان، المكان، كل هذه العناصر تجتمع بين دفتي كتاب لتسمى رواية

حين ننظر إلى الكاتب على أنه مبدع أو أنه قدم عملاً يستحق القراءة، علينا أن نقدر أولاً أن العمل الروائي عمل كبير بشكل عام، وأن الاستمرار في كتابة الرواية يحتاج إلى الكثير من الجهد النفسي والمعنوي والكثير من الاطلاع والاستماع والمتابعة، بالإضافة إلى الصياغة وتركيب الأحداث وأن كل هذا العمل يقوم به شخص واحد جمع الأفكار المتناثرة ووضعها في رأسه وعكف على كتابتها حتى النهاية.

يمكننا أن نصور الكاتب على أنه مُؤرخ، لكن تاريخه ضمن الرواية لا يؤخذ بجدية التاريخ المنهجي الأكاديمي للأحدث وذلك بسبب فردية الكاتب والتصور المدرج ضمن الحبكة الروائية لا يخرج من عقل جمعي يوثق ويأصل المعلومات، الروائي حين يصور أي حدث تاريخي يضع فيه الكثير من المشاعر والارتباطات التي لا يلجئ إليها المؤرخ الأكاديمي أو المختص، قس على ذلك كل ما يتعلق بالعمل الأكاديمي في التخصصات كلها.

يمكننا أن نصف الكاتب على أنه شاعري أو أنه رومنسي أو أنه عاطفي، وفي هذه النقطة بالتحديد يكون العمل الروائي ذو مصداقية أكبر حيث إنه من الطبيعي أن يعايش الكاتب روايته منذ البداية ويرسم شخصياتها، وهذا الأمر يجعله على اتصال ذهني وعاطفي بالشخصيات، لذا يكون متمكناً أكثر من غيره في وصف تلك المشاعر والأحاسيس، لدرجة تصل للواقع أو تقترب منه.

من الضروري أن نعرف أن الكاتب يقع تحت تأثير نفسي وعقلي يجعله ينسج روايته في خياله ولو بشكل مختصر عبر نقاط، وأن الرواية التي ينسجها المؤلف لا بد أن تتأثر بخلفيته الدينية أو الأيديولوجية، أو الحزبية إلخ ..، هذا يعطي الرواية بُعد شخصي فلا يمكن للكاتب أن يلغي كل اعتقاداته السابقة، وكل قراءاته وفكره دون أن يكون في الرواية بصمة نفسية شخصية، أحياناً يتعمد الكاتب أن يبرز معتقده فيما يكتب أو يوحي به وأحياناً أخرى يكتشف القارئ ذلك من معرفته السابقة بالكاتب.

نجاح العمل وفشله له عدة أوجد تقع بعضها على الكاتب، وبعضها رغماً عنه فالمسؤولية التي تقع عليه، هي جودة العمل من حيث الصياغة وربط الأحداث وتجسيد الشخصيات بشكل صحيح بحيث يكون العمل مترابطاً والرواية محبوكة بشكل لا يشتت القارئ أو يضعف اهتمامه بالعمل .

الرواية: تأثير الرواية ..

كل حدث في الدنيا له بداية ونهاية، والرواية كذلك بها نقطة بداية ونهاية، وتقع الأحداث بين تلك النقطتين، بتصور شخص واحد للأحداث.

عندما أفكر في الرواية لا أفكر بها على أنها قصة فقط، ما يشغلني في الرواية ذلك الشوق الذي يدفعنا أن نمسك كتاباً لا يحمل مادة علمية أكاديمية، ونقرأه بشوق لا يفتر حتى ننتهي من قراءته، ثم نبحث عن رواية أخرى لنفعل الشيء نفسه، ربما تحمل الروايات العبرة، وبعض الدلالات الأخرى لكن لها سحرها الخاص الذي يحبسك في أحداثها فلا تتركها حتى تعرف نهايتها.

الرواية تحمل فكر شخص واحد، وهو الكاتب، يضع فيها عصارة فكر روائي قصصي، يحور فيها أحداث، ويكحلها بمواقف مشوقة، لتشد انتباه القارئ، ويمكنه كذلك أن يضع أفكاره، وتوجهاته سواء كانت سياسية، أو ثقافية أو علمية أو أيدلوجية، على هيئة أشخاص يمثلون ذلك الفكر ويضع حولهم هالة من الوقار أو يجعل القارئ يتعاطف مع الشخصيات او ينفر منها، وهو بذلك يزرع فكرة معينة في ذهن القارئ، ويضع مبادئ ذلك التوجه في جدول أفكاره دون أن يشعر.

هذه النقطة مهمة، فالرواية تتعايش مع الأحداث كالحياة التي تتخللها المشاكل والشخصيات، والأزمات، إذاً الرواية مشابهة لواقع البشر الذي يعيشونه، بسبب هذا التشابه يمكنها أن تأثر بشكل سلل وقوى على القارئ دون أن يشعر، وهو يقرأ الرواية في عزلة وتركيز، وربما يتأثر بشخصية معينة، أو ينسجم مع فكرة.

الكثير من الروايات سوقت لمبادئ فلسفية، ومبادئ منحرفة، وأيديولوجيات غريبة، ووضعتها في سياق مشوق، جسدت شخوصها كأبطال، ننظر إليهم في الرواية بفخر، أو دفعتنا للتعاطف مع حالة أو قضية أو مشكلة معينة، وبعض الروايات حققت رواجاً كبيراً في زمانها، وأثرت في الرأي العام، ووجهة الجماهر في بعض الأحيان.

إذا للرواية، تأثير أكبر مما نتوقع، لأنها تتربع على هرم الأدب، فالأقصوصة ثم القصة القصيرة، ثم القصة،ثم الحكاية، ثم الرواية، علاوة على ذلك يخرج من الرواية مستوى أعلى من الإعلام فتتحول لمسلسل أو فيلم سينمائي، ورغم محدودية زمن تلك الأعمال إلا أن تأثيرها في زمانها يكون قوياً جداً.

إذاً الرواية تقع ضمن سلسلة هرمية، فهي في قمة هرم الأدب، وهي في قاع الأعمال السنيمائية، وهذا الامتداد يعطي الرواية قيمة أكبر وأهمية لا يمكن أن ينكرها أي شخص.

الرواية “الحشو والتفاصيل”

الرواية “الحشو والتفاصيل”

لا يختلف فن الرواية عن الفنون الأدبية الأخرى، فكل منها يشكل مشهداً من مشاهد الأدب التي ينتمون إليه جميعاً، لكن الرواية رغم أنها تحتاج إلى الكثير من الجهد والتركيز، تفتقر لبعض الجوانب التي تتمتع بها بعض الفنون الأدبية الأخرى مثل الشعر الذي يمكنه أن يختصر لك الموقف في بيت شعرٍ واحد، أو يحدثك عن قصة كاملة في قصيدة من عدة أبيات، بخلاف الرواية التي تعتمد اعتماداً كلياً على السرد، والاختصار في الرواية ربما يضعفها إن لم يوصل المعنى المراد شرحه بشكل يتقبله القارئ.

الرواية فن أدبي لا يعتمد على الاختصار؛ لأنه يتعاطى مع أحداث الحياة بشكل يجسدها في سطور يستطيع القارئ من خلالها تخيل المشهد كاملاً دون اختزال، فلو فرضنا أن موقفاً حزيناً يتمثل فيه رجل نجد أن من الأجدى أن يصف الكاتب مشاعر ذلك الرجل بالشكل الذي يضمن فيه وصول ذلك الشعور الذي يبين كثافة الموقف، ولو كان الشرح مطولاً فلا ضير في ذلك ما دام سيوصل المعنى كاملاً دون اختزال ودون الخروج عن المشهد.

لأن الرواية لا تشمل موقفاً واحداً، فهي تحتاج إلى تلك التفاصيل التي تخدم العمل لا التي تبعث الملل في نفس القارئ، في الرواية نحتاج إلى شرح تفاصيل المشاعر، وتفاصيل الموقف، وأحياناً نحتاج إلى شرح تفاصيل حوار، وأخرى نحتاج فيها لشرح تفاصيل المكان إن كان للمكان تأثير في ذلك المشهد المرسوم بالكلمات.

يمكننا أن نختصر أي شيء نقرأه، لكن الرواية لا تعتمد على الاختصار فالاختصار يختزل الكثير من جماليات الرواية، ويجعلها هزيلة في المعاني والتفاصيل التي أعتبرها حساسة جداً؛ لأنها تؤثر في النسيج العام للعمل الأدبي، ولأن القارئ حين يقتني رواية يعرف حق المعرفة أنها قصة طويلة، وبها الكثير من الكلمات والمعاني والمواقف والمشاعر، فمن المهم أن نعرف أين نضع الاختزال وأين نحتاج إلى الشرح، ومن واقع القراءة يمكننا أن نكتشف؟ أين ابتذل الكاتب وأين اختصر، وهل الابتذال في المشهد في محله الصحيح أم أنه أجهد الرواية وقارئها، وأثر في النسيج السردي، فمثلاً حين نصف المشاعر نبتعد كثيراً عن وصف المكان، وإن تطرقنا له نتطرق له بشكل جزئي لكي لا نشتت تفكير القارئ، فيكون تركيزه على العاطفة لا المكان؛ لأننا نريد أن نوصل مشاعر تلك اللحظة لا مكانها، فنجعل للعاطفة التأثير الأكبر، وللمكان الأصغر أو ننفي المكان من المشهد.

حين نحشو الرواية بتفاصيل متكررة ومملة، فإننا نخسر في أكثر من جانب، أولها أن التفاصيل الكثيرة التي تخرج عن المعقول، تشتت القارئ عن الحكاية الرئيسية في الرواية، وثانيها تجعل النسق يميل إلى التكرار والتكرار بحد ذاته يبعث على السأم، ويؤثر في النسيج العام من حيث المضمون والمضمون في الرواية ليست التفاصيل المملة، بل هي أحداث ومواقف نريد أن نوصلها بشكل مؤثر وبنسق متصل لكي يستمتع بها القارئ ونصل للفائدة الكاملة التي تعطي القارئ قيمة القصة وما تطرحه.

الرواية .. الكاتب إله الرواية ..

ربما لا يعجب هذا المصطلح فئات كثيرة، لكنه يعجبني بلا شك، فالكاتب هو إله الرواية الذي يفعل كل شيء فيها يحي ويميت، يوزع الأموال والمناصب، ويخلق المشاكل ويضع الحلول، ويبني الشخصيات ويهدمها، وإلى هذا الحد يقف دور الكاتب، فهو إله في نصه الذي يكتبه ولا تستطيع قدراته أن تتجاوز هذا النص، فقدرته الهائلة في الرواية تقف عاجزة مثلاً عن إيجاد القبول أو رفض العمل أدبياً أو شعبياً، نتفق إذا أن الكاتب إله الرواية، لكنه عندما ينتهي منها يخضع للمعاير التي يخضع لها البشر في الواقع.

ما يجب على الكاتب في هذه الجانب الذي يبني فيه الرواية، ويتحكم في النسق أن يجد له طريقة مناسبة ومتزنة في طرح القضايا والأحداث وخلق الشخصيات، بحيث يتتبع القارئ خيط التشويق الذي يجعله يستمر في القراءة لمعرفة النهايات، دون أن يزهد في الرواية ويتركها، فتشابك الأحداث وتتابعها مهم جداً، وكذلك حجم الحدث وموضعه في العمل، فأن تبدأ الرواية بكارثة، يتوجب عليك أن تعطي هذه الكارثة حجمها الطبيعي المقبول لدى الجمهور فلا ترفعها أكثر، فتنهار ولا تسخطها فتتحول لحدث عرضي، لكن يمكنك أن تظهر الجوانب الخفية في الكارثة كالجانب الإنساني أو الاقتصادي أو الاجتماعي، وبهذا الأسلوب تتضخم الكارثة في عين القارئ، دون أن يكون فيها شذوذ عن الواقع.

يجب أن يكون هناك توازن، فأن تكتب شيئاً معقولاً يساير الواقع أو أن تكتب شيئاً في الخيال، يخالف الواقع أو أن تبالغ في طرح القضايا وتضخمها بالقدر الذي يفوق لفت الانتباه، ويصل لدرجة الاشمئزاز، فأنت تخلق أحداثاً في كل الاتجاهات تبنيها بتصورك الشخصي، لأن الرواية تصور شخصياً للأحداث مهما تبنت من مراجع، أو تضمنت كوارث، فهي تفسر الواقع والتاريخ بعين واحدة، والمبالغة أو الاختزال لها موقعها في الرواية فبعض الأمور يجب أن يرتفع فيها نسق التفاصيل وبعضها يأفل فيها ذلك النسق، وكل القضايا والشخصيات والأحداث يربطها أسلوب الكاتب وكيفية الطرح، فالأسلوب يجعل من الغريب مقبولاً، ومن المستنكر جائزاً، ومن الشاذ طبيعياً.

إذا أحسن الكاتب الصياغة، واستطاع أن يصل بالأحداث لمستوى الإقناع لدى القارئ يكون العمل تجاوز الإرباك وفك الاشتباك الذي يحدث بين الشخصية والحدث في الرواية، وحتى لو لم يعجب العمل الأدبي المختصين، ووجد نقداً لاذعاً، واكتشفوا فيه الكثير من الأخطاء التكوينية، يمكن للعمل أن يتجاوزهم جمعياً في عين الجمهور، ويكون مقبولاً أو ناجحاً أو مبهراً.

الإله يتحكم في كل شيء من البداية حتى النهاية، والكاتب إله الرواية، وهو المتحكم فيها، وعليه أن يخلقها بشكل جميل، وأن يعود إلى الواقع أو تصوراته؛ لأن الواقع هو ما يربط الرواية في ذهن القارئ، فوجود الإنسان في رواية خيالية هو بحد ذاته واقع؛ لأن الإنسان واقع، والأحداث الخيالية تدور حوله، أو تشابه الأحداث بين عالم افتراضي كامل مع الأحداث في عالمنا، مع الفرق في التشكيل والتلوين والبهرجة التي يضعها الكاتب لكي يكون عالماً خيالياً يناسب الطرح.

الرواية .. الشخصية الرئيسية ..

هي المحور الأهم في الرواية، ورغم أن الكاتب يمكنه أن يضع أكثر من شخصية رئيسية في العمل الروائي، إلا أن القليل يتمكنون من عدم تضخيم أحد الشخصيات لتطغى على البقية، أو يكون لها حضور لافت في الرواية بحيث يكون تأثيرها هو المحرك الرئيسي للعمل، ويمكن الملاحظة بسهولة أن الكاتب يضع لتلك الشخصية الخارطة الأقوى في الأحداث.

محورية الشخصية الرئيسية ليست فقط لأن الأحداث تدور حولها، أو أنها تحرك الأحداث، بل هي مكون رئيسي في بنية الرواية وتكوينها، بحيث أن الخلل في الشخصية الرئيسية يؤثر في العمل بشكل عام، وكلما تمكن الكاتب من تجسيد الشخصية التي تلعب دور البطولة بشكل صحيح نجح في تكوين الجزء الأهم من لأن الشخصية الرئيسية تقع في القلب وأي خلل فيها يسبب الارتباك.

مسار الرواية التي تكون فيها البطولة لشخص واحد يمشي على خط شبه مستقيم، فالأحداث تقع إما بفعل الشخصية الرئيسية أو بجانبها، يستمر التسلسل على نمط واحد تقريباً، مع تشكيل الأحداث وتأثيرها.

البطولة المشتركة في الرواية تكون متعبة للكاتب أكثر من البطولة المفردة، ففي حال البطولة المفردة ينظر الكاتب للأحداث بعين البطل فقط، لكن عندما تكون البطولة مشتركة بين أكثر من شخصية، تختلف نظرة كل شخصية للأحداث التي تدور حولها، ويختلف التحليل، وعلى الكاتب أن ينتبه للعوامل المؤثرة مثل العوامل النفسية والاجتماعية والمالية لكل شخصية.

في البطولة المشتركة تكون للرواية مسارات إما تبدأ وهي ملتقية مع بعضها، أو تكون متفرقة ثم تجتمع، ومن الممكن أن تلتقي مرة أخرى بحسب التقاء الأحداث وتنافرها في الرواية ومدى تأثيرها في الشخصيات، هذا النمط له ميزة أنه يعطي الرواية تفاصيل أكثر، ويعمق الفكرة فيمكن للكاتب أن يطرح قضية واحدة، ويضع لها أكثر من تصور بحسب الشخصيات الموجودة في الرواية.

من الضروري للكاتب مراعاة الشخصيات النسائية في أدوار البطولة، حيث إن النساء يختلفن كل الاختلاف عن الرجال في الحالة النفسية والانفعالية والتأثر بالمشاعر وحالة الصدمة وردة الفعل، من الضروري أن يؤمن الكاتب الرجل بأنه لا يكتب عن نفسه، بل يكتب عن جنس آخر له تكوينه الفيسيولوجي المختلف، وكذلك الكاتبة المرأة يجب أن تراعي تلك الملاحظات عندما تكتب عن البطل الرجل، فالتفاصيل للأجناس البشرية تميز الشخصية، وتميز الحدث أحياناً.

الرواية “الشخصيات الوسطى”

لا أجد وصفاً أجمل من مسرح العرائس للشخصيات الوسطى في الرواية التي تنتقل أحياناً لدور البطولة ثم تخبوا، وتختفي دون أن يكون لها تأثير في مجرى الرواية، فيخلق الكاتب حبيبة للبطل أو حبيب للبطلة، عدواً، صديقاً أو معلماً أو أي شخصية تتناسب من أحداث روايته، وتدعمها في مراحل معينة، دون أن يقلق الكاتب من موجودها، فمثلاً لو كانت الشخصية شريرة، استمرارها في الرواية لفترة طويلة سيجعل الرواية تتحول لصدام، فيخلقها الكاتب كشخصية وسطى تؤدي دوراً مرحلياً، ثم يتخلص منها بالشكل المناسب الذي يدعم فكرته.

ببساطة الشخصيات الوسطى يخلقها الكاتب في وسط الرواية، أو في أولها، أو في نهايتها، ويرفع من أهميتها، أو يحط من شأنها، ويمكنه من خلال تلك الشخصيات إضافة بعض الجوانب التي يشعر أن روايته تحتاجها، ولا بد من معالجتها كالجوانب العاطفية أو النفسية، مثلاً يرى الكاتب أن النص تنقصه المشاعر، فيضخم دور العاطفة بوضع شخصية تلعب هذا الدور، وتأثر على البطل أو البطلة في الرواية.

الشخصيات الوسطى عكس الشخصية الرئيسية فالشخصيات الرئيسية هي التي تسير مع الكاتب من البداية إلى النهاية، أما الشخصية الوسطى فهي مرحلة، ربما تدخل في مراحل متقدمة في الرواية، وتحتل مركزاً في البطولة، لكنها لا تكون محور الحدث، بل تكون ملازمة لأحد الشخصيات الرئيسية، من الشخصيات الوسطى في الرواية شخصية الحكيم مثلاً أو المعلم، يضعها الكاتب كمرجع ليغير دفة الأحداث، فيكون التغيير مقنعاً، وهذه الشخصية لا تكون موجودة باستمرار، تظهر بين فترة وفترة، ثم تختفي من جديد، وتسير الأحداث دون وجودها.

لا نستطيع أن نصنف الشخصيات الوسطة في دور أعلى كالبطولة، ولا نستطيع أن نحط منها لنجعل دورها هامشياً، الإبداع أن يخلق الكاتب هذه الشخصيات، كما هي في الواقع، فكل إنسان لديه في حياته الطبيعية أشخاص في القمة وأشخاص في الوسط وأشخاص هامشيون، والإجادة في خلق الشخصيات الوسطى والتخلص منها بشكل مطابق أو قريب من الواقع يجعل الرواية تلامس شعور القارئ، وتوصل الرسائل التي يريد الكاتب أن يوصلها من خلالها.

كل شخصية توضع في الرواية تأثر فيها والكاتب هو الميزان ومهارته في السرد والتعبير هي التي تجعل لكل شخصية في الرواية رونقها الخاص، فحين يرفع الكاتب شخصية وسطى في الرواية عليه أن يجيد في رسمها بالشكل الذي يناسب روايته لكيلا يراها القارئ أو النقاد كنشاز.

“الرواية” الشخصيات الهامشية ..

في كل قصة توجد شخصيات هامشية، وهذا لا يعني أن الشخصية الهامشية ليست مهمة، بل تعتبر مكوناً أساسياً لا يمكن الاستغناء عنها إلى حين تُهمش أو تُتجاهل في الروايات التي تصف المشاعر، أو تتحدث بصيغة النفس دون التطرق للكثير من الشخصيات التي من المفترض أن تكون موجودة في الروايات التي تكون بصفة الراوي العليم.

الشخصيات الهامشية يمكن أن تلعب دوراً مهماً فبعض الأحداث الضئيلة التي يوضح الكاتب من خلالها أفكاراً صغيرة تستثمر فيما بعد في الرواية كأسباب، أو توضح الرأي العام إذا احتاج الكاتب للتطرق لذلك في روايته.

كما تُرقى الشخصيات الوسطى لمستوى البطولة في الرواية يمكن أن ترقية بعض الشخصيات الهامشية أيضاً لتحتل أدوار وسطى في الرواية، أو تكون مع الشخصيات الرئيسية، بحسب سير الأحداث ونظرة الكاتب لأهمية خلق شخصية تحرك الأحداث، أو تتطرق لجوانب جديدة في العمل.

الشخصيات الهامشية كما في الواقع البشري لا يمكن الاستغناء عنها وفي الغالب تكون أدوارها مكملة للشكل العام للرواية، ويمكن إغفال أحدها في أي لحظة، دون أن ينتبه لها القارئ، أو يعير لغيابها أي اهتمام.

الرواية: الشخصيات في الزمان والمكان ..

عندما أكتب نصاً قصصياً أو روائياً وأصف مكاناً أو شخصاً أو يكون هناك حوار يناقش قضية مهمة انتبه لعمر الشخصية التي تتحدث ، ولجنسه، ذكر، أنثى، والثقافة التي ينتمي إليها.

ولأشرح هذه المسألة قليلاً، لنفرض رجلاً في الخمسين يتحاور مع شاب في العشرين من العمر، من المهم أن يكون فكر الشاب مواكب لعمره وزمانه وثقافته، وكذلك الرجل الخمسيني، يجب ألا يخرج عن نظرة الرجل الكبير ذي الخبرة والوقار مثلاً، وعلينا أن نغير الشخصيات قليلاً لنكتشف بعض الفروق، لو كان رجل في الخمسين من العمر يحاور رجل في الأربعين ، من الطبيعي إن نوعية الحوار ستختلف لتتماشى مع الشخصيات، فعمر الأربعين أكثر اتزاناً من عمر العشرين، واندفاع الشاب، أقوى من اندفاع الشيخ .

مرة أخرى لنغير المشهد، ونجعل الشخصيات تصف مكاناً لنفترض أنه مقهى، تصفه ثلاث شخصيات ، شخصية شاب، ورجل كبير في السن، وامرأة في الثلاثين من العمر، فما الذي سيلفت انتباه الشاب وما الذي سيلفت انتباه الشيخ وما الذي سيثير المرأة الثلاثينية في المكان، ولنضع حسب نظرتنا إلى الأشخاص تصور لما ستنتبه له الشخصيات الثلاث، فالشيخ الكبير سيعجبه الأثاث العتيق في المقهى الذي يعطيه ملامح الأصالة، لكنه سيشتكي أن الكرسي غير مريح، والمرأة الثلاثينية لن يعجبها الأثاث القديم ، لكنها ستبتسم للوردة الموجودة على الطاولة، أما الشاب ربما لا يعجبه المكان برمته ولا جودة مأكولاته ، فهو يريد مكاناً يتسم بالحداثة، لكن تستهويه فتاة المقهى .

من الضروري أن يكون هناك اختلافات في شخصيات الرواية ومن الضروري أن تتناغم تصرفات الشخصيات مع الأحداث بما يتناسب معها، فالشخصية القوية في الرواية لا تستسلم دون مقاومة، ولا تتوقف عن المحاولة، والشخصية الضعيفة لا تتمرد إلا في حالات نادرة بدوافع معينة، وشخصية الرجل تختلف عن شخصية المرأة، والمرأة الكبير في السن تختلف عن الشابة في العشرين من العمر، وقس على ذلك، هذا لا يعني أن تكون الشخصيات نمطية لا تخرج عن السياق، لكننا يجب أن نحرص على أن تسير الشخصية حسب الصورة التي رسمناها للشخصية في الرواية ولا تخرج عنها إلا بقناعة أو حدث يستطيع أن يؤثر في الشخصية بحيث تتبنى تصور جديد أو تغير من سلوكها .

شخصيات الرواية هي الأساس الذي تقوم عليها، والخل في الشخصيات يولد الإرباك للكاتب ويشتت ذهن القارئ بحيث لا ينتبه لجماليات الرواية بل ينظر إلى الخل، فالتحول المفاجئ لشخصية مهمة في الرواية دون مبررات مقنعة يضعها الكاتب، تخلق فجوة بين واقع الرواية وشخصياتها، وتجعل القارئ يتوقع أن يتجه الكاتب للفنتازيا، وهذا الأمر لا يحدث إلا في روايات الكوميديا أو الفنتازيا ذاتها، لكننا لا نستطيع أن نقلب الشخصيات رأساً على عقب في الروايات الاجتماعية أو الروايات التي تحاكي التاريخ دون أسباب أو أحداث مؤثرة، تكون مبرراً مقنعاً لتحول الشخصية من قناعة لقناعة أخرة أو من تصرف متوقع لتصرف متهور أو شاذ عن السياق .