
الفصل الثالث رسالة العبرانيين وهل كانت هبة؟ وقفاً عليهم؟:
كل ما يأتي في هذا المقال مستند لشرط سبينوزا في البحث “تفسير الكتاب المقدس بالكتاب المقدس” ولم يلجأ إلى كتاب غيره لذا وجب التنبيه أن كل ما يرد لا يعني أي شيء آخر غير ذلك.
على لسان سبينوزا “عندما قال الكتاب لحث العبرانيين على طاعة الشريعة ((أن الله اصطفاهم من بين سائر الأمم، وأنه قريب منهم بعيد عن الآخرين، وأنه وضع لهم شرائع عادلة لهم وحدهم، وأنه أعطاهم وحدهم شرف معرفته)) فإنه إنما يتحدث على مستوى فهم العبرانيين الذين لم يكونوا يعرفون السعادة الحقيقية” في هذا المقطع يوضح سبينوزا أن الله لم يختص بني إسرائيل وحدهم بالرعاية، بل أنهم أولوا تأويلاً تعسفي، ففي نظر سبينوزا أن بني إسرائيل لن يحصلوا على رعاية أقل لو أن الله رعى الأمم الأخرى، أو أعطاها كما أعطاهم، فالمسألة تتوقف على التأويل والأمنيات والخيال الذي دعاهم لتصور هذا الأمر، وأن موسى استخدم هذه اللغة والأسلوب لكي يعلم العبرانيون عبادة الله، وأن يربطهم به بطريقة تناسب أرواحهم الساذجة.
يتطرق سبينوزا في هذا الباب لمصطلحات في التوراة: حكم الله، عون الله الداخلي والخارجي، اختيار الله، وأخيراً الحظ ويشرحها على النحو الآتي:
حكم الله: الحكم الإلهي الثابت نظام الطبيعة الثابت الذي لا يتغير التي تقع ضمن تسلسل قوانين الطبيعة، وهذه هي أوامر الله الأزلية التي تحفظ التوازن العام.
عون الله الداخلي والخارجي: كل ما يستعين به الإنسان وهو نفسه جزء من الطبيعة للحفاظ على وجوده من حيث إنها فاعلة بطبيعة الإنسان نفسها، أو أشياء خارجة عن طبيعة الإنسان.
اختيار الله: في تلخيص بسيط يقصد سبينوزا القدر فهو يقول: من المحال أن يسلك أحد سلوكاً إلا لنظام الطبيعة المحدد من قبل، يترتب على ذلك أن لا أحد أن يختار أسلوب حياته إلى برسالة خاصة من الله الذي اختار هذا الفرد وميزة ليقوم بهذا العمل. وتشعر بأن سبينوزا يقول في هذه الجزئية أن الإنسان مسير لا مخير دون التصريح بذلك.
الحظ: حكم الله من حيث سيطرته على البشر عن طريق العلل الخارجية التي لا يمكن توقعها.
لماذا سُميت أمة العبرانيين أمة مختارة:
- معرفة الأشياء بعللها الأولى
- السيطرة على انفعالاتنا حتى نصل للفضيلة
- العيش في سلام مع جسم سليم
وهذه هي العلل الأساسية الأولى التي يقول سبينوزا أن النقطة الأولى والثانية هبتان لا تخصان أمة دون أمة، أما العيش في سلام مع جسم سليم فله شروطه فحكم الحياة البشرية واليقظة يفيدان الإنسان فائدة جمة كالقانون والمنطقة الجغرافية التي يعيش فيها ذلك المجتمع وأتحاد جميع القوى في المجتمع، وبوجود القوانين والناس الحكماء واليقظة يكون المجتمع أقل حاجة للحظ، والعكس يكون أن المجتمع المتخلف أو غير المنظم ترتفع حاجته للحظ أكثر.
إذاً الأمم تمتاز بالنظام الاجتماعي والقوانين التي تحكمها وقد أختار الله العبرانيين وفضل أمتهم على سائر الأمم لا لحكمتهم وطمأنينة نفوسهم بل لنظامهم الاجتماعي والحظ، الله أوجد لهم دولة ونعموا بالأمان وازدهار أحوالهم وأن هذا كله حصل بعون الله الخارجي وفيما عدا ذلك لا يتميزون على باقي الأمم، وأن الوعد الإلهي يقتصر على الازدهار الدنيوي لدولتهم والمزايا المادية، وبذلك يجزم سبينوزا أن الشريعة لم تعد العبرانيين بشيء أخر مقابل طاعتهم إلا باستمرار دولتهم التي يسعدون بها وبنعم الدنيا، إن التزموا بالشروط وفي حال مخالفتهم للميثاق تسقط عليهم أفدح المصائب.
يعرج سبينوزا على نقطة أخرى مهمة أن الله لم يختص العبرانيين وحدهم وأن شروطه وضعت للجميع ويستدل من التوراة على ذلك في المزمور 144 ((الله قريب من جميع دعاته الذين يدعونه بالحق)) والمزمور 9 (( الله صالح للجميع ومراحمه على كل صنائعه)) وآيات أخرى يستدل بها سبينوزا على ما يريد إثباته ويستشهد بأن “أيوم” وهو غير يهودي كان أحب الجميع إلى الله لأنه فاقهم في الورع والتدين، وفي سفر يونس ((أن الله يرعى الجميع ويرحمهم ويسامحهم، وأن رحمته تسعهم جميعاً)) .
أما بخصوص أن الله لم يرسل للعبرانيين أي نبي غير يهودي فيقول سبينوزا أن هذا الأمر ليس مهماً لأن العبرانيين لم يهتموا إلا برواية شئونهم الخاصة لا برواية شئون الأمم الأخرى، وأن ارميا لم يسمى بنبي الأمة العبرية وحدها، بل نبي الأمم كلها بلا تميز.
الشريعة أوحيت للجميع على حد سواء بمعنى شريعة الفضيلة الحقة ويستدل بكلام بولس أن الله هو إله جميع الأمم وأنه يرعى الجميع ما دام الجميع يخضعون للشريعة والخطيئة، ويقول بولس “لقد أؤتمن اليهود وحدهم على كلمات الله، ويشرحها سبينوزا أن اليهود وحدهم من اودعت لديهم الشريعة مكتوبة في حين حصلت باقي الأمم على الوحي والأمانة في الروح فقط.
سبينوزا يعتبر تميّز اليهود زمنيًا وسياسيًا فقط، لا أبديًا أو روحانيًا، وبكذا تكون أوضح، ويستشهد على ذلك بالشتات الذي يعانونه في وقته ويتمنى أن تعود لهم دولة وأنهم يكونون مرعيين من الله في ذلك الوقت.
















