
كانت تجلس هنا باستمرار صغيرة الحجم بفساتينها الصغيرة الأنيقة، تلقيها أمها كل يوم في نفس المكان، فتجلس تصفق بكفيها كلما علا صوت التلفاز بأغنية تضرب بكعبيها بارتجال غير منتظم وتهمهم بكلمات لا تجيد نطقها، تزحف وهي تمسك أجزاءً حادة تجرحني، أشعر بالألم وهي تستمتع بألمي حين ترى ذلك الخط يُرسم على الخشب ويشوهه، لا أنسى يوم وجدت أحمر الشفاه ملقى على الأرض كيف فعلت فعلاماته الحمراء شوهتني من الأرض وعلى امتداد يديها الصغيرتين .
أما شقيقها لا يعبث فيني كثيراً إلا في أوقات نادرة لكنه يقوم بفعل يزعجني، يصفق الأبواب بقوة فترتج جدراني ألا يعلم هذا الطفل العنيف لا أني قديم أَقدم من أسرته كلها، والده الغبي كان يفعل الفعل نفسه في صغره لكني كنت في ذلك لوقت أحمل الكثير من القوة وأستطيع التحمل أما الآن أشعر بأرجائي جميعها تهتز حين يصفق الأبواب، له تصرفات أخرى غبية لا يفعلها باستمرار كأن يحفر ثقباً في جدرانِ أو أن يركلني بالكره بعنف وبحركات متتالية حتى أشعر بالترنح.
الوحيدة التي أحمل لها ذكريات طيبة هي أمهم ،لم أرها وهي صغيرة، جاءت بعد أن تزوجها والدهم، منذ وصلت كانت حانية، تتحرك في داخلي باستمرار إلى أنها تتحرك برفق ورغم كثرة مشاغلها لا تهملني وتهتم بي كثيراً خصوصاً بنظافتي وأناقتي، فتلمعني وتجملني وتزينني باستمرار، وُجدت لتشعرني بالراحة فزوجها الذي لا يكف عن الطرق والقطع في ورشته التي هي جزءٌ مني يسبب لي الكثير من الأذى وحين يعطب شيء فيّ يتكاسل ويتلكأ ولا يصلحه وحتى لو أصلحه لا يفعل ذلك بعناية كافية، بل ليسكت زوجته التي تلح عليه ليصلحني.
رغم كل ما تفعله هذه الأسرة من إزعاج وكل ما تتسبب فيه من خراب وعطب في أركاني إلا أني كنت أريدهم أن يبقوا معي، بمجرد أني احتويهم أشعر بالدفء، وجودهم وأصواتهم وحركتهم تعطيني الأمل والشعور بأني أصلح للحياة ولم يحن وقت موتي، لم يمنحوني تلك الحياة الدائمة التي كنت أتمنى، في يوم من الأيام جهزوا حقائبهم، فقط حقائبهم، ظننت أنهم سيمكثون في الخارج يومين أو ثلاثة أو أسبوع على أكثر تقدير أحصل خلالها على الراحة التي أريد، الأيام طالت ولم يعودوا، شعرت بالسكون يلفني والصمت المميت يحيط بي من كل مكان، طالت الفترة فبدأت أشعر بتلك الحشرات الصغيرة تتحرك في داخلي، تلك الحشرات التي تكاد أصواتها لا تسمع تبحث عن الشقوق لتعيش فيها، تنخر عظامي بأنيابها الحادة، ورغم ذلك لم أتضايق كثيراً فقد بدأت أشعر بالأشياء تتحرك، رغم انتشار الغبار لم أشعر بالقذارة فما زلت نظيفاً.
الأيام مرت ولم يعودوا، لا نور يضاء ولا كعبٌ صغيرةٌ تضربني ولا طفل أهوج يصفق أبوابي ولا رجل أرعن يتسلى حين يقطعني بآلاته الغريبة، بقيت هكذا حتى مر طفل وألقى حجر فنكسر زجاج أحد نوافذي كأنه فقأ عيني حينها، شعرت برعشة من البرد تلفح ضلوعي، بعدها مر طفل آخر وألقى حجر كسر نافذة آخر وتوالت الأحجار، ثم بدأت أشعر بهم يتسللون داخلي، أعرف أنهم لا يأتوا لكي يضعوا أكاليل الزهور، في أحد المرات تسلل متعاطي للمخدرات مكث فيني أربعة أيام، كان لا يكلف نفسه أن يذهب للحمام لقضاء حاجته، يفعلها في أي زاوية قريبة منه ، كنت أريد أن أصرخ في وجهه “أيها القذر” لكن لا جدوى، أحياناً يتسلل بعض العشاق أو بعض الأطفال، الآن أشعر بمدى قذارتي “أنا قذر” منذ أن حملت تلك السيدة الجميلة حقائبها هي وزوجها وأطفالها وخرجوا، لم أشعر النظافة، ابكي مما أنا فيه، كل شيء مهمل ومهشم ، حتى ذلك الغبي الذي كان يصلحنِ بتثاقل أصبحت أشتاق إليه على الأقل كان يهتم بي حين أصاب بحجر، ويا ليت تلك الصغيرة تعود وتضرب بكعبيها لتوقظني كل صباح، سأهديها أحمر شفاه جديد لكي ترسم تلك الخطوط على أرضي وجدراني وكي أسمع صوت أمها وهي تصرخ بها وتأتي لتنظفي بلطف.
مات الأمل مع مرور الأيام ولم تتكسر نوافذي فقط، أبوابي تكسرت وأكثر من جدار، وأصبح الكثيرون يمرون وينظرون إلي باشمئزاز وخوف وريبة، لا انتظر الآن إلا أن يلقي فيني أحدهم عود ثقاب ليكتب شهادة وفاتي.