قدمت هذه الورقة في جلسة توقيع رواية الحرب في مكتبة الحي الثقافي “كتارا” بتاريخ 13/9/2023
تحكي الرواية بصورة عامة عن حرب ظفار التي تبنى فيها الثوار الفكر الشيوعي السائد في ذلك الوقت لكن الرواية متجوزة لهذا الحدث في الكثير من جوانبها حيث خلق الكاتب مجتمعاً عماني بكل عناصره تقريباً في الولايات المتحدة تجاوز من خلاله قيود الداخل وفتح الآفاق لنظرة متحررة من كل عقبات وعقد المجتمع والسلطات المحلية، وأعطانا نظرة متفتحة لتصور يطرح لعمان بشكل مغاير ومن زوايا مختلفة عبر شخصياته المتحررة.
هناك حروب كثيرة في الرواية فحرب ظفار رغم ثقل وطأتها إلا أنها ليست الحرب الوحيدة فهناك حروب الأئمة والسلاطين وحروب مع المحتل الأجنبي لكن الكاتب وضع الثقل لحرب ظفار لأنها الحرب الأخيرة ولأنها استغرقت الكثير من الوقت والجهد والفكر لكي تنتهي ويمكننا أن نشاهد تأثيرها في الواقع الحالي لو دققنا النظر.
الحرب ليست هدف الرواية إنما الهدف الأسمى هو عُمان الوطن الذي ترغب كل شخصيات الرواية في رسم صورته بشكل جميل وأحداث التغيرات التي تنقل الوطن من مجرد أرض لمعنى متجاوز تلك الصورة النمطية التي تُفرض على العقول بشكل إجباري في أوطاننا العربية دون أن يكون للمواطن إسهام في وضع ملامحها، ولهذا كان المجتمع العماني في الولايات المتحدة هو الصورة الأقوى الأنجع لوضع تصور صحيح للوطن دون خوف أو ريبة.
لعبت الشخصيات دور هام في الرواية بحيث أن كل شخصية كانت تعكس شريحة من المجتمع منهم المناضل المحارب الذي دمرته الحرب ومنهم اللامبالي الذي لا يكترث إلى بشؤونه اليومية وعمله، وآخر تضرب عروقه في التاريخ العماني ويتذكر عهد الإمامة وانهيارها لكنه منفصل عن القيم ويعيش في تفسخ رغم اعتزازه بتاريخ الوطن والأسرة، ومنهم الموظف الذي يعيش واقع الوطن لكنه انتقل إلى الخارج لفترة قصيرة ومكنه ذلك من خلق المقارنات واكتساب المعرفة الناقصة التي يحتاجها، ومنهم الفتاة المتفتحة بنت المناضل التي تحيا حياة غربية في شكلها وتحمل معها عمق عُمان وحنينه لكنها ترفض أن تعود إليها.
كرستينا سعيد تلك الفتاة الجميلة البهية الشهية الناجحة في عملها التي تربط بين كل شخصيات الرواية وتجمعهم حولها وتهتم بشؤونهم وتراعي مشاعرهم فهي كالأم في احتوائها لأبنائها وهي كالوطن الذي يجمعهم، ورغم أنها فتاة جميلة يحبها الجميع إلى أنها ترسم لنا أكثر من صورة في الرواية فلو تجاوزنا المشاعر العاطفية بين البشر سننظر إلى كرستينا على أنها عُمان الوطن الذي من الواجب أن يأوي إليه الجميع وعليه أن يحتويهم، أو ننظر إليها بمعنى آخر يرسمها كالحلم الذي يتمنى الجميع أن تكون عليه عُمان جميلة بهية أنيقة ناجحة يحبها الجميع وتحتوي جميع أطياف المجتمع دون تمييز أو عنصرية.
في واقع الرواية كرستينا هي الرابط بين أجزاء الرواية وشخصياتها فهي ابنة المناضل سعيد علي الذي عاد للوطن بعد أن اقتنع أن المبادئ التي قامت عليها ثورة ظفار لا يمكن أن تتحقق في منطقة الخليج ثم اقتنع أن القيادة الجديدة في البلاد تريد أن تبني مستقبلاً يشارك فيه الجميع، عاد للوطن وأصبح ذا منصب رفيع يرتبط مباشرة مع السلطات العليا ليعيش في ترف القيادة ويبقى هاجس التغيير الذي يعود به للماضي موجوداً في خفايا نفسه حتى يكتب مذكرات الحرب لابنته، وهذه الشخصية تحمل رمزية خاصة في الرواية فهي التي تقع عليها كل مسؤولية التاريخ القريب وحرب ظفار.
سعيد قيصر لا يمثل شخصية عادية في الرواية فقد وضعه الكاتب ليخط مسار الرواية والاتجاه الذي تسير فيه وهو الشخصية الوحيدة في الرواية التي خرجت من الوطن تحمل الآمال المدمرة ونظر إلى الصورة من الخارج وعاد للوطن ليسحق كل طموحه ويسترجع ذكرياته العاطفية الميتة ومن خلاله وضع الكاتب المشاهد المنعزلة في كمشاهد سينمائية منفصلة يلقى الضوء من خلالها على حدث معين كنقطة تركيز يقف عندها القارئ ويتخيل المشهد ويستنتج من خلاله ما حدث وما يمكن أن يحدث، وسعيد قيصر يعتبر هو الأكثر ارتباطاً بالوطن ينظر إليه من خلال معالمه ويزرع فيه آماله التي يريد من خلالها أن يحقق ذاته، دون جدوى، وتبقى في المخيلة كرستينا كما آماله المعلقة في الوطن البعيدة المنال، وبه ختم الكاتب روايته أن يتركه يكتب “الحرب” دون أن يحدد نوع الحرب ولا زمنها، وتنتهي الرواية والقارئ يفكر حرب التي سيكتب عنها سعيد قيصر.
سعيد زاهر التاريخ والحاضر، وجدت في ملامح شخصيته الكثير من التناقض المناسب للعمل من حيث وضعه الاجتماعي وثرائه ونسبه العريق الذي يتصل بنسل الأئمة، ورغم أنه يعشق كل شيء عريق إلا أنه لا يريد عراقة الوطن وأيضاً لا يريد أن يتخلى عن عراقة النسب، وهذه الشخصية لا تأتي من انفصام لكم في معتقدها أن الوطن مما كان جميلاً فهو لا يعطيها مستوى الحرية والانفتاح اللامحدود التي تصبو إليه فتبنى الهرب من فكرة العودة وتمسك بأصالة الوطن في غربته، والتناقض يكمن في تصرفاته التي لو حدثت في الوطن لأصبحت شاذة أو مستنكرة.
سهيل محاد، يمثل الأغلبية الصامتة التي لا ترغب في الحديث يعمل ويلهو بأي شيء ليضيع وقت الفراغ دون أهداف زائدة أو طموحات جارفة، نمطية الحياة تملؤه فلا يفكر في المزيد وهو مقتنع أنه بخير، ومن وجهة نظري هو يمثل الشعب البسيط الذي يسير خلف رزقه ولا ينظر لأكثر من ذلك فإن حصل له خير ولا يطمح بالمزيد وإن حصل شر أوى إلى جحره ليتقيه.
عيسى صالح، كل تراكمات الوطن بحروبه ونزاعاته وتصادماته ومعاركه، تحمل كل تبعات الهزيمة فاختلطت كلها فيه معنويا وعاطفياً ونفسياً حتى فقد قيمة الإحساس وأصبح يضع الحب في مكان مخالف لحقيقته، يحب كرستينا وفي أعماقه تسكن امرأة أقدم وأعرق منها كانت في البعيد هي الأمل والدافع وهي الرجاء، شخصية مدمرة لا تستطيع أن تحمل تلك الشظايا المتبعثرة من التاريخ والأزمات فتتناثر نفسه في كل الاتجاهات ولا يجد وطنناً يأويه، فيعيش في الضياع يبحث ويبحث حتى يكتشف أنه وحيد.
عندما تناقشت مع الدكتور محمد اليحيائي ذكرني بشخصية هامشية في الرواية كانت تعمل في الظل كان لها تأثير في شخصيتي الرواية المهمين زوجها سعيد قيصر وبنتها كرستينا سعيد، أخبرت الدكتور أنه وضعها كشخصية متوارية في الرواية وكأنه لا يريد أن يلتفت لها أحد، فلم يخالفني الرأي لكنه لفت انتباهي إلي تأثيرها فملامح التغيير التي أحدثها على تلك الشخصيات التي عايشتها كان يحمل التغيير ويحمل أيضاً نظرة المستقبل.
لا أستطيع مهما حاولت أن أكون فكرة واحدة صلبة في الرواية فكل شخصية وكل حدث في الرواية حين أنظر إليه يتشظى في مخيلتي ويخلق تفسيرات كثيرة لحدث أو شخصية في العمل، وواقع الرواية يدفع بهذا الاتجاه فتشظي السرد الذي نثره الدكتور بين دفتي الكتاب يساعد على خلق تفسيرات متعدِ لكل شخصية، ونتائج متباينة لكل حدث، فكرستينا نظرت إليها أنها وطن بينما لا يعتبرها الدكتور اليحيائي كذلك، ولنقس على هذا الأمر الرواية كلها.