
كل ما يأتي في هذه المقال مستند لشرط سبينوزا في البحث “تفسير الكتاب المقدس بالكتاب المقدس” ولم يلجأ إلى كتاب غيره لذا وجب التنبيه أن كل ما يرد لا يعني أي شيء آخر غير ذلك.
الفصل السابع عشر
وفيه نبين أن أحداً لا يستطيع تفويض كل ما يملك إلى السلطة العليا، وأن هذا التفويض ليس ضرورياً، دولة العبرانيين وكيف كانت في حياة موسى وبعد موته، مزايا هذه الدولة وأسباب انهيار الدولة الإلهية بعد أن شاعت فيها الفتن
لا يستطيع أي فرد أن يتخلى عن قدرته وحقه لفرد آخر، إلى الحد الذي يلغي فيه وجوده كإنسان، ولا تملك أي سلطة عليا أن تملك من القوة ما يسمح لها بفعل كل ما تريد فمثلاً لن تطاع إذا أمرت أحد أفراد الرعية أن يكره من يحب أو يحب من يسيء إليه، أو ألا يحاول التحرر من الخوف التي تتبع قوانين الطبيعة البشرية.
الفرد يحتفظ لنفسه بقد كبير من حقه، وبالتالي لا يعود رهينة بمشيئة الآخر، بل بمشيئته، فإذا أردنا أن ندرك إلى أي حد تمتد سلطة الدولة العليا، يجب أن نلحظ أن سلطتها لا تقتصر على استعمال القهر المرتكز على التخويف وحسب، بل تشمل كافة الوسائل التي تحمل الناس على طاعة أوامرها، فليس ما يميز الرعية هو الباعث على الطاعة، بل هو الطاعة ذاتها.
يعتمد قيام الدولة على:
- على ولاء الرعية وفضيلتهم ومثابرتهم على تنفيذ الأوامر، كما يشهد العقل والتجربة بوضوح تام.
- تعمل الدولة على ما من شأنه تجنب الشرور البشرية.
- إقامة سلطة تكفل القضاء على الخداع.
- وأن تقيم في كل مجال من الأنظمة ما يجعل الجميع يضعون المصلحة العامة فوق مصالحهم الخاصة.
دولة العبرانيين كيف كانت:
اتباعاً لنصائح موسى الذي كان لديهم أعظم قدرة من الثقة فيه، قرر العبرانيون الخروج من الحالة الطبيعية التي وجدوا أنفسهم فيها، وتفويض كل حقوقهم لله وحده، وهكذا وعدوا الله أن ينفذوا أوامره، وألا يترفوا بأي قانون لم يقرره الله نفسه بوحي نبوي، لذا يعتقد العبرانيون بأنهم يحتاجون دائماً في بقائهم إلى عناية القدرة الإلهية، ومنذ ذلك الحين أصبحت سلطة الحاكم عند العبرانيين لله وحده، وأصبحت الدولة بفضل هذا العهد تستحق اسم مملكة الله، وكما أصبه الله يسمى بحق بملك العبرانيين، وبالتالي كان أعداء هذه الدولة أعداء الله، ومن أراد اغتصاب السلطة أصبح مداناً بجريمة الطعن في سلطة الله العلية، وفي هذه الدولة يتلخص القانون المدني والدين في طاعة الله.
القواعد التي اتبعت في إدارة الدولة:
- إن العبرانيين لم يخولوا حقهم لشخص آخر، تخلوا عنه طواعية كما هو الحال في النظام الديمقراطي، وصاحوا بصوت واحد: سنفعل كل ما يطلبه الله منا، وبناءً على هذا العهد ظل الجميع متساويين تماماً.
- فوض العبرانيون إلى موسى كلية حقوقهم في التشاور مع الله وتفسير أوامره، وكان هو وحده القاضي الأعظم الذي لا يحكم عليه أحد.
منهجية إدارة شؤون الدول:
أمر موسى الشعب ببناء مسكن كان بمثابة بلاط الله، وهو السلطة العليا لهذه الدولة، ويتحمل الشعب كله التكاليف المالية للبناء حتى يكون المسكن الذي يتم فيه التماس المشورة ملكاً للجميع، وقد اختير اللاويين لخدمة البلاط الإلهي، واختير هارون أخو موسى ليكن رئيساً لهم.
أمر موسى بالخدمة العسكرية من سن العشرين إلى سن الستين، على أن يتكون الجيش من المواطنين فقط، ثم يقسم الجيش يمين الولاء للدين (أي الله) وبذلك سمي جيش الله، وكتائبه كتائب الله، كما سم الله عند العبرانيين إله الجيش، ولهذا السبب كان تابوت العهد ينصر وسط الجند في المعارك.
تكون جيش من الأسباط الإثني عشر الآخرين، وصدر لهم الأمر بغزو بلاد الكنعانيين، وقسمت الأرض التي تم الاستيلاء عليها إلى اثني عشر قسماً بالتساوي.
عين موسى نقباء للأسباط حتى يتفرغ كل واحد منهم بعد التقسيم لتنظيم شؤون نصيبه، أي ليضطلع بمهمة استشارة الله في شؤون سبطه على لسان كعب الأحبار، وقيادة جيشه، وتأسيس المدن وتحصينها، وتعين القضاة فيها، ومحاربة عدو دولته الخاصة، وتنظيم شؤون الحرب والسلم بوجه عام، إذا لم يقوم سبط بواجباته نحو الله كان على باقي الأسباط ألا تعامله على أنه من ضمن الرعايا، بل عليهم محاربته وكأنه عدو نقض عهداً ألتزم به.
في عهد يوشع بن نون كان لا بد له من الاستعانة بوساطة كعب الأحبار الذي يسمع وحده ردود الله، ثم يصدر يشوع الأوامر المبلغة إليه من الحبر، ويدفع الناس إلى تنفيذها.
الحكم للسلطة الإلهية للأسباب التالية:
- كان المعبد هو المقر الملكي للدولة، كان جميع أفراد الأسباط مواطنين في دولة واحدة.
- كان على جميع المواطنين أن يقسموا يمين الولاء لله حاكمهم الأعظم الذي وعدوه وحده بالطاعة.
- الله وحده هو الذي يختار عند الحاجة قائداً أعلى.
الدوافع القوية لعدد من الجرائم التي يرتكبها الأمراء لم يكن قائماً عند العبرانيين للأسباب التالية:
- لأن حق تفسير الشريعة متروكاً بأسره للاويين وحدهم، وهم لا يحق لهم أن يشاركوا في أي تنظيم سياسي، ولم يكن لهم حق الملكية.
- كان على الشعب كله، تطبيقاً لأوامر الله، أن يجتمع مرة كل سبع سنوات في مكان محدد لكي يتلقى من الحبر معلومات عن الشريعة.
- تكليف جميع المواطنين بالخدمة العسكرية وحظر استقدام النقباء للمرتزقة من الخارج.
- لم يكن نقيب السبط يفضل مواطنيه في النبل والعظمة أو أي حق موروث، بل كان يُعد بحكم الدولة نظراً لفضيلة الشخص وسنه وحدهما.
- النقباء والجند لم يكونوا يفضلوا الحرب على السلم، فالجيش مكون من المواطنين وحدهم، وهو الذين يتولون أمور الحرب والسلم، فمن كان جندياً وقت الحرب كان مواطناً عادياً وقت السلم.
الكيفية التي تم بها ضبط انفعالات الشعب:
- بعد أن فوضوا حقهم إلى الله اعتقدوا أن مملكتهم مملكة الله وأنهم أبناء الله والشعوب الأخرى أعداء الله، ولهذا السب كانوا يكنون لهذه الشعوب كراهية شديدة.
- لم يكن هناك أشنع أو أبغض من خيانة الوطن.
- الإقامة في أرض أجنبية يعتبر عاراً، بحيث لا يسمح لهم بإقامة شعائرهم الدينية.
- أرض الوطن مقدسة وأي أرض غيرها دنسة لا قدسية لها.
سبب انهيار دولة العبرانيين:
- عصيانهم لله بعبادتهم للعجل.
- أصبحت القوانين تبدو أقرب إلى العقاب والتعذيب منها إلى القوانين الفعلية.
- تمييز اللاويين على غيرهم بأن من حقهم وحدهم دخول المعبد، وكانوا ينتهزون كل فرصة ليشعروا العبرانيين بعارهم.
- أدت التغيرات الكبيرة والإباحية المطلقة والترف والإهمال إلى انهيار عام في الدولة.
- طلبوا تعين ملكاً عليهم بحيث لا تكون للمعبد السلطة العليا.
- الملوك الأوائل كانوا راضين بما وصلوا عليه لكن الأبناء الذين حصلوا على السلطة بالوراثة عمدوا إلى إحداث تغيرات حتى يضعوا سلطة الدولة كاملة تحت أيديهم.