
كل ما يأتي في هذا المقال مستند لشرط سبينوزا في البحث “تفسير الكتاب المقدس بالكتاب المقدس” ولم يلجأ إلى كتاب غيره لذا وجب التنبيه أن كل ما يرد لا يعني أي شيء آخر غير ذلك.
الفصل السابع
تفسير الكتاب:
يعترف الجميع بأن الكتاب المقدس كلام الله وأنه يعلم الناس طريق السعادة الروحية والخلاص وفي الواقع لا يحرصون أن يعيشوا وفقاً لتعاليم الكتاب المقدس، واستبدلوا بكلام الله بدعهم الخاصة ويحاولون باسم الدين أن يرغموا الآخرين على أن يفكروا مثلهم، ويقول سبينوزا: اللاهوتيون انشغلوا بالبحث عن وسيلة لاستخلاص بدعهم الخاصة وأحكامهم التعسفية من الكتب المقدسة بتفسيرها قسراً وتبرير تلك البدع والأحكام بالسلطة الإلهية.
إن الطموح الإجرامي هو الذي جعل الدين يدافع عن بدع إنسانية أكثر من طاعة تعاليم الروح القدس، وأن الطموح الإجرامي نشر أقسى أنواع الشقاق والكراهية بين الناس تحت قناع الحماس للدين، بالإضافة إلى احتقار الطبيعة والعقل.
يطالب سبينوزا أن يكون هناك منهج صحيح يتبع في تفسير الكتاب المقدس:
لا يخالف منهج وأحكام الطبيعة، ويتفق معها في جميع جوانبه.
الحصول على معرفة تاريخية مضبوطة، نستخلص منها معطيات مبادئ يقينية.
الكتاب المقدس يتناول موضوعات لا يمكن استنباطها من المبادئ التي نعرفها بالنور الطبيعي، قصص وموضوعات للوحي، معجزات وروايات تقص وقائع غير مألوفة في الطبيعة وكانت تلائم أفهام الرواية الذين قاموا بتدوينها في ذلك الزمن، لذلك يجب أن نستمد المعرفة من الكتاب نفسه أي تفسير الكتاب المقدس بالكتاب المقدس، كما نعرف الطبيعة من الطبيعة نفسها.
شروط الفحص التاريخي للكتاب المقدس:
- يجب أن تفهم طبيعة وخلاصة اللغة التي دونت بها أسفار الكتاب المقدس والتي اعتاد مؤلفوها التحدث بها، وبهذه الطريقة يمكننا فحص المعاني بحسب الاستعمال الشائع في زمانها، لا وجب علينا معرفة اللغة العبرية معرفة جيدة.
- تجميع آيات كل سفر وتصنيفها تحت موضوعات معينة، كما يجب أن نجمع الآيات والجمل التي تعارض بعضها بعضا.
- يجب أن يربط الفحص التاريخي كتب الأنبياء بجميع الملابسات الخاصة التي حفظتها لنا الذاكرة، بمعنى يجب أن نعرف سيرة المؤلف وأخلاقه وأهدافه والمناسبة التي كتب عنها وفي أي وقت ولمن كتبها وبأي لغة، كما يجب أن يقدم هذا الفحص الظروف الخاصة بكل كتاب، كيف جمع؟ ومن جمعه؟ وكم نسخة مختلفة معروفة عن النص؟ ومن الذين قرروا أدراجه في الكتاب المقدس؟
حتى ألا نخلط بين التعاليم الأزلية وتعاليم أخرى لا تصلح إلا لزمان معين ولمجموعة معينة من الناس يجب أن نعرف في أي مناسبة وفي أي زمن ولأي أمة وفي أي عصر كتبت التعاليم،
وبعد الانتهاء من الفحص التاريخي يجب علينا دراسة فكر الأنبياء والروح القدس، ويجب أن نبدأ بالبحث عن أكثر الأشياء شمولاً وعن الأسس والأصول التي يرتكز عليها الكتاب المقدس وعما أوصى به جميع الأنبياء على أنه عقيدة أزلية لها أعظم المنفعة، كوجوب أن الله واحد قادر قدرة مطلقة ويجب عبادته وحده.
الصعوبات التي تواجه المنهج المتبع:
هناك صعوبة كبيرة تنشأ من أن هذا المنهج يتطلب معرفة تامة باللغة العبرية فأين لنا هذا؟ ولم يترك علماء اللغة العبرية القدماء لخلفهم أي شيء بشأن الأسس والمبادئ التي تقوم عليها هذه اللغة.
- ينشأ اشتباه النص وغموضه في التوراة عن استبدال الحروف التي ينطق بها نفس العضو ببعضها البعض، حيث يقسم العبرانيون الحروف لخمس مجموعات طبقاً لأعضاء الفم: الشفتين، اللسان، الأسنان، الحلق، والحنجرة، مثلاً: تستعمل (ال) التي تعني (إلى) بدلاً من (عل) التي تعني (على) وبذلك يحث في الكثير من الأحيان أن تصبح جميع أجزاء النص متشابهة او أصواتاً بلا معنى.
- تعدد المعاني لحروف العطف والظروف، مثلاً: تستعمل (الواو) على السواء في الربط والتمييز فتعني (و) (لكن) (لأن) (مع أن) (إذا) (عندما).
- المتشابهات، وهو أ، الأفعال ليس لها من الطبيعة الإخبارية مضارع أو ماضي مستمر أو ماضي أتم أو مستقبل ماضي سابق وأزمنة أخرى تستعمل بكثرة في اللغات الأخرى.
أسباب أخرى:
- العبرانيون ليس لديهم حروف تعادل الحروف المتحركة.
- العبرانيون لم يتعودوا أن يقسموا كلمهم المكتوب أو أن يبرزوا المعنى بصورة، أي تأكيد بعلامات.
يقول سبينوزا: هناك صعوبة أخرى في هذا المنهج تأتي من أنه يتطلب المعرفة التاريخية لكل أسفار الكتاب وهي معرفة لا تتوافر لدينا في معظم الأحيان والواقع أننا نجهل تماماً مؤلفي كثير من الأسفار أو نجهل من كتبها، ومن ناحية أخرى لا ندري في أي مناسبة ولا في أي زمن كتبت، ولا نعلم في أيدي من وقعت ومن جاء بالمخطوطات الأصلية التي وجد لها عدد من النسخ المتباينة ولا نعلم إن كانت هناك نسخ أخرى من مخطوطات من مصادر أخرى لم نطلع عليها.
هناك صعوبة أخيرة وهي أننا لا نملك هذه الأسفار في لغتها الأصلية أي لغة كاتبها، مثلاً: هناك تساؤل عن اللغة التي كتب بها سفر أيوب، ابن عزرا يؤكد أنه قد ترجم إلى العبرية من لغة أخرى وأن هذا هو سبب غموض السفر، يقول سبينوزا: أنا أعد هذه الصعوبات من الخطورة بحيث لا أتردد في القول بأننا لا نعرف معاني كثيرة من الكتاب أو نجملها دون يقين.
نقض أفكار ابن ميمون في التفسير:
- يفترض ابن ميمون أن الأنبياء متفقون فيما بينهم على جميع الموضوعات، وأنهم جميعاً فلاسفة كبار ولاهوتيين عظام، وأنهم عرفوا الحقيقة، ويبن سبينوزا خطأ فرضية ابن ميمون في هذا الجانب باختلاف آراء وتصورات الأنبياء كما بين في الفصل الثاني من هذا الكتاب.
- يفترض ابن ميمون بأنه لا يمكن البرهنة على معنى الكتاب بالكتاب نفسه، وقد بين سبينوزا في هذا الفصل خطأ فرضية ابن ميمون في هذا الجانب.
- يفترض ابن ميمون أنه يحق لنا تفسير الكتاب وتأويله بطريقة متعسفة لآرائنا المسبقة ورفض المعنى الحرفي عمداً واستبداله بمعاني أخرى، حتى لو كان المعنى الحرفي أوضح المعاني أو أقربها إلى الذهن، يقول سبينوزا: نحن لا يمكننا أن نعرف بالعقل ما لا يمكننا البرهنة عليه وهو النور الأعظم من الكتاب كما لا نستطيع شرحه بالطريقة التعسفية لابن ميمون، لكننا نستطيع شرحه بمنهجنا بالاستدلالات والأمثلة.