قراءة في كتاب رسالة في اللاهوت والسياسة للفيلسوف الفرنسي سبينوزا الفصل السادس

كل ما يأتي في هذه المقال مستند لشرط سبينوزا في البحث “تفسير الكتاب المقدس بالكتاب المقدس” ولم يلجأ إلى كتاب غيره لذا وجب التنبيه أن كل ما يرد لا يعني أي شيء آخر غير ذلك.

الفصل السادس

المعجزات:

العامة يظنون أن قدرة الله تظهر إذا حدث في الطبيعة أمر خارق للعادة مناقض لما اعتادوا عليه، ويعتقدون أن أكبر برهان على وجود الله هو الخروج الظاهر على نظام الطبيعة، وعلى ذلك فهم يتخيلون قدرتين متميزتين: قدرة الله، وقدرة الأشياء الطبيعية التي تخضع لقانون الله، ويسمي العامة حوادث الطبيعة الخارقة للعادة معجزات أو أعمال الله، وهم يفضلون أن يجهلوا العلل الطبيعية للأشياء، ويعتقد سبينوزا أن هذا الرأي يرجع إلى اليهود القدماء، فقد قصوا معجزاتهم محاولين أن يبينوا أن الطبيعة مسيرة لمصلحتهم وحدهم بأمر الإله الذي يعبدونه.

الإنسان يتخيل أن الطبيعة محدودة، وأنه هو الجزء الرئيسي فيها حسب أفكار العامة وأحكامهم المشتقة عن الطبيعة والمعجزات، ويبين سبينوزا هنا أربع نقاط مهمة:

أولاً: لا يحدث شيء في الطبيعة فالطبيعة نظام أزلي لا يتغير:

المبدأ الإلهي يقول: إن ما يشاؤه الله، أو يحدده يتضمن ضرورة أو حقيقة أزلية، وهذا استنتاج من عدم تمييز ذهن الله عن إرادته بمعنى: أن الله وفقاً لطبيعته وكماله يتصور الشيء على ما هو عليه وما يريد على ما هو عليه، ومن هذا نتبين أن الأوامر الإلهية تصدر من الطبيعة الإلهية وكمالها، فلو حدث شيء في الطبيعة يناقض قوانينها العامة يكون هذا الأمر مناقضاً لأمر الله، فلو قلنا إن المعجزة الإلهية تخرق قانون الطبيعة، فإننا نقول إن الله خرق القوانين التي سنها في الكون، ويكون هذا حينها اعترافاً منا بأن الله خلق طبيعة تعمل بقوانين وقواعد عقيمة.

سيقول سبينوزا في هذه النقطة بالتحديد: أن، المعجزة حادثة لا نستطيع أن نتبين علتها على مبدأ الأشياء الطبيعية كما ندرك بالنور الفطري، وأجريت على مستوى فهم العامة، وأن الكتب المقدسة روت الوقائع التي يقال عنها معجزات، ويمكن تعيين علتها بالمبادئ المعروفة للأشياء الطبيعية.

ثانياً: لا نستطيع أن نعرف بالمعجزات ماهية الله أو وجوده، ويمكننا الوصول لذلك عن طريق قانون الطبيعة الثابت:

لا يمكن معرفة ماهية الله أو وجوده أو عنايته عن طريق المعجزات، وعلى العكس من ذلك نستطيع أن ندرك تلك الأمور بطريقة أوضح عن طريق نظام الطبيعة الثابت الذي لا يتغير، وبما أن وجود الله غير معروف بذاته، فمن الواجب استنتاجه من أفكار تبلغ من الرسوخ والثبات حداً لا يمكن معه وجود أو تصور قوة قادرة على تغيرها، ولو وجدت قدرة قادرة على التغير، فمن حقنا أن نشك في استنتاجنا أي في وجود الله، وبذلك لو عرفنا المعجزات على أنها أعمال مناقضة للطبيعة يستحيل أن تكون وسيلة لإثبات وجود الله، وعلى العكس إيماننا بأن الطبيعة تملك نظاماً ثابتاً لا يتغير يجعلنا أكثر يقيناً.

المعجزات سواء أكانت لها علل طبيعية، أم لم تكن، فهي عمل يتجاوز حدود الفهم الإنساني، والحق أن كل ما نعرفه بوضوح وتمييز يجب أن نعرفه بذاته أو بشيء آخر يعرف بذاته، ويفسر سبينوزا المعجزة في الكتاب المقدس بوصفها عملاً في الطبيعة يتجاوز الفهم الإنساني.

ثالثاً: أن الكتاب المقدس لا يعني بأمر الله ومشيئته ولا بالعناية الإلهية، بل يعني نظام الطبيعة ذاته بوصفه نتيجة ضرورية للقوانين الأزلية:

يبين سبينوزا معتمداً على الكتاب المقدس أن أوامر الله ووصاياه ليست في الواقع إلا نظام الطبيعة، فعندما يقول الكتاب المقدس أن هذا الشيء، أو ذاك حدث بالفعل طبقاً لقوانين الطبيعة ونظامها لا لأن الطبيعة قد توقفت قد توقفت عن الفعل بعض الوقت، أو أنها خرجت عن نظامها كما يعتقد العامة، والكتاب لا يخبرنا بذلك بشكل مباشر؛ لأن هدفه ليس تعريفنا بالعلوم والعلل، بل بالإيمان وبث الخشوع في نفوس العامة.

يتحدث الكتاب المقدس عن الله وعن الأشياء بأسلوب غير دقيق؛ لأنه لا يريد إقناع العقل بقدر ما يريد إثارة الخيال وشحذ قدرته على التصور فمثلاً: لو روى الكتاب المقدس سقوط دولة بنفس أسلوب المؤرخين لما حرك ساكناً لدى العامة، على حين أن الأثر يعظم عندما يصف ما حدث بأسلوب شاعري وينسبه إلى الله.

رابعاً: الطريقة التي ينبغي بها تفسير المعجزات وما يجب ملاحظته أساساً على الرواية الخاصة بالمعجزات:

كان العبرانيون في زمن يشوع يعتقدون أن الشمس تتحرك حركة تسمى يومية، في حين تظل الأرض ثابتة، ثم كيفوا تلك الفكرة لمعجزة حدثت في أثناء معركتها ضد الملوك الخمسة، فلم يروا فقط أن النهار قد طال أكثر من المعتاد، بل روى أن الشمس والقمر قد توقفا، أي أن حركتهما قد انقطعت، وبدافع من العقيدة تصوروا الأمر، ورووه على نحو مخالف للحقيقة.

من الضروري أن نعرف الراوي الأول وأول من دون الرواية، ثم نميز بين الأفكار والتصور الحسي الذي كان يمكن أن يَتْكون في الواقع، وإلا فإننا سنخلط بين المعجزة نفسها كما حدثت بالفعل وبين أفكار رواتها وأحكامهم.

المعجزات لا تبدو شيئاً جديداً إلا لجهل الناس بأن الكتاب يعلمنا ذلك صراحة، لكنه لا يقول في أي من نصوصه أن شيئاً ما يحدث في الطبيعة مناقضاً لقوانينها، أو يستحيل استنباطه منها.

بقلم

أفاتار غير معروف

كتابات

انسان بسيط له رأي

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.