الرواية “الحشو والتفاصيل”

الرواية “الحشو والتفاصيل”

لا يختلف فن الرواية عن الفنون الأدبية الأخرى، فكل منها يشكل مشهداً من مشاهد الأدب التي ينتمون إليه جميعاً، لكن الرواية رغم أنها تحتاج إلى الكثير من الجهد والتركيز، تفتقر لبعض الجوانب التي تتمتع بها بعض الفنون الأدبية الأخرى مثل الشعر الذي يمكنه أن يختصر لك الموقف في بيت شعرٍ واحد، أو يحدثك عن قصة كاملة في قصيدة من عدة أبيات، بخلاف الرواية التي تعتمد اعتماداً كلياً على السرد، والاختصار في الرواية ربما يضعفها إن لم يوصل المعنى المراد شرحه بشكل يتقبله القارئ.

الرواية فن أدبي لا يعتمد على الاختصار؛ لأنه يتعاطى مع أحداث الحياة بشكل يجسدها في سطور يستطيع القارئ من خلالها تخيل المشهد كاملاً دون اختزال، فلو فرضنا أن موقفاً حزيناً يتمثل فيه رجل نجد أن من الأجدى أن يصف الكاتب مشاعر ذلك الرجل بالشكل الذي يضمن فيه وصول ذلك الشعور الذي يبين كثافة الموقف، ولو كان الشرح مطولاً فلا ضير في ذلك ما دام سيوصل المعنى كاملاً دون اختزال ودون الخروج عن المشهد.

لأن الرواية لا تشمل موقفاً واحداً، فهي تحتاج إلى تلك التفاصيل التي تخدم العمل لا التي تبعث الملل في نفس القارئ، في الرواية نحتاج إلى شرح تفاصيل المشاعر، وتفاصيل الموقف، وأحياناً نحتاج إلى شرح تفاصيل حوار، وأخرى نحتاج فيها لشرح تفاصيل المكان إن كان للمكان تأثير في ذلك المشهد المرسوم بالكلمات.

يمكننا أن نختصر أي شيء نقرأه، لكن الرواية لا تعتمد على الاختصار فالاختصار يختزل الكثير من جماليات الرواية، ويجعلها هزيلة في المعاني والتفاصيل التي أعتبرها حساسة جداً؛ لأنها تؤثر في النسيج العام للعمل الأدبي، ولأن القارئ حين يقتني رواية يعرف حق المعرفة أنها قصة طويلة، وبها الكثير من الكلمات والمعاني والمواقف والمشاعر، فمن المهم أن نعرف أين نضع الاختزال وأين نحتاج إلى الشرح، ومن واقع القراءة يمكننا أن نكتشف؟ أين ابتذل الكاتب وأين اختصر، وهل الابتذال في المشهد في محله الصحيح أم أنه أجهد الرواية وقارئها، وأثر في النسيج السردي، فمثلاً حين نصف المشاعر نبتعد كثيراً عن وصف المكان، وإن تطرقنا له نتطرق له بشكل جزئي لكي لا نشتت تفكير القارئ، فيكون تركيزه على العاطفة لا المكان؛ لأننا نريد أن نوصل مشاعر تلك اللحظة لا مكانها، فنجعل للعاطفة التأثير الأكبر، وللمكان الأصغر أو ننفي المكان من المشهد.

حين نحشو الرواية بتفاصيل متكررة ومملة، فإننا نخسر في أكثر من جانب، أولها أن التفاصيل الكثيرة التي تخرج عن المعقول، تشتت القارئ عن الحكاية الرئيسية في الرواية، وثانيها تجعل النسق يميل إلى التكرار والتكرار بحد ذاته يبعث على السأم، ويؤثر في النسيج العام من حيث المضمون والمضمون في الرواية ليست التفاصيل المملة، بل هي أحداث ومواقف نريد أن نوصلها بشكل مؤثر وبنسق متصل لكي يستمتع بها القارئ ونصل للفائدة الكاملة التي تعطي القارئ قيمة القصة وما تطرحه.

الرواية .. الكاتب إله الرواية ..

ربما لا يعجب هذا المصطلح فئات كثيرة، لكنه يعجبني بلا شك، فالكاتب هو إله الرواية الذي يفعل كل شيء فيها يحي ويميت، يوزع الأموال والمناصب، ويخلق المشاكل ويضع الحلول، ويبني الشخصيات ويهدمها، وإلى هذا الحد يقف دور الكاتب، فهو إله في نصه الذي يكتبه ولا تستطيع قدراته أن تتجاوز هذا النص، فقدرته الهائلة في الرواية تقف عاجزة مثلاً عن إيجاد القبول أو رفض العمل أدبياً أو شعبياً، نتفق إذا أن الكاتب إله الرواية، لكنه عندما ينتهي منها يخضع للمعاير التي يخضع لها البشر في الواقع.

ما يجب على الكاتب في هذه الجانب الذي يبني فيه الرواية، ويتحكم في النسق أن يجد له طريقة مناسبة ومتزنة في طرح القضايا والأحداث وخلق الشخصيات، بحيث يتتبع القارئ خيط التشويق الذي يجعله يستمر في القراءة لمعرفة النهايات، دون أن يزهد في الرواية ويتركها، فتشابك الأحداث وتتابعها مهم جداً، وكذلك حجم الحدث وموضعه في العمل، فأن تبدأ الرواية بكارثة، يتوجب عليك أن تعطي هذه الكارثة حجمها الطبيعي المقبول لدى الجمهور فلا ترفعها أكثر، فتنهار ولا تسخطها فتتحول لحدث عرضي، لكن يمكنك أن تظهر الجوانب الخفية في الكارثة كالجانب الإنساني أو الاقتصادي أو الاجتماعي، وبهذا الأسلوب تتضخم الكارثة في عين القارئ، دون أن يكون فيها شذوذ عن الواقع.

يجب أن يكون هناك توازن، فأن تكتب شيئاً معقولاً يساير الواقع أو أن تكتب شيئاً في الخيال، يخالف الواقع أو أن تبالغ في طرح القضايا وتضخمها بالقدر الذي يفوق لفت الانتباه، ويصل لدرجة الاشمئزاز، فأنت تخلق أحداثاً في كل الاتجاهات تبنيها بتصورك الشخصي، لأن الرواية تصور شخصياً للأحداث مهما تبنت من مراجع، أو تضمنت كوارث، فهي تفسر الواقع والتاريخ بعين واحدة، والمبالغة أو الاختزال لها موقعها في الرواية فبعض الأمور يجب أن يرتفع فيها نسق التفاصيل وبعضها يأفل فيها ذلك النسق، وكل القضايا والشخصيات والأحداث يربطها أسلوب الكاتب وكيفية الطرح، فالأسلوب يجعل من الغريب مقبولاً، ومن المستنكر جائزاً، ومن الشاذ طبيعياً.

إذا أحسن الكاتب الصياغة، واستطاع أن يصل بالأحداث لمستوى الإقناع لدى القارئ يكون العمل تجاوز الإرباك وفك الاشتباك الذي يحدث بين الشخصية والحدث في الرواية، وحتى لو لم يعجب العمل الأدبي المختصين، ووجد نقداً لاذعاً، واكتشفوا فيه الكثير من الأخطاء التكوينية، يمكن للعمل أن يتجاوزهم جمعياً في عين الجمهور، ويكون مقبولاً أو ناجحاً أو مبهراً.

الإله يتحكم في كل شيء من البداية حتى النهاية، والكاتب إله الرواية، وهو المتحكم فيها، وعليه أن يخلقها بشكل جميل، وأن يعود إلى الواقع أو تصوراته؛ لأن الواقع هو ما يربط الرواية في ذهن القارئ، فوجود الإنسان في رواية خيالية هو بحد ذاته واقع؛ لأن الإنسان واقع، والأحداث الخيالية تدور حوله، أو تشابه الأحداث بين عالم افتراضي كامل مع الأحداث في عالمنا، مع الفرق في التشكيل والتلوين والبهرجة التي يضعها الكاتب لكي يكون عالماً خيالياً يناسب الطرح.

الرواية .. الشخصية الرئيسية ..

هي المحور الأهم في الرواية، ورغم أن الكاتب يمكنه أن يضع أكثر من شخصية رئيسية في العمل الروائي، إلا أن القليل يتمكنون من عدم تضخيم أحد الشخصيات لتطغى على البقية، أو يكون لها حضور لافت في الرواية بحيث يكون تأثيرها هو المحرك الرئيسي للعمل، ويمكن الملاحظة بسهولة أن الكاتب يضع لتلك الشخصية الخارطة الأقوى في الأحداث.

محورية الشخصية الرئيسية ليست فقط لأن الأحداث تدور حولها، أو أنها تحرك الأحداث، بل هي مكون رئيسي في بنية الرواية وتكوينها، بحيث أن الخلل في الشخصية الرئيسية يؤثر في العمل بشكل عام، وكلما تمكن الكاتب من تجسيد الشخصية التي تلعب دور البطولة بشكل صحيح نجح في تكوين الجزء الأهم من لأن الشخصية الرئيسية تقع في القلب وأي خلل فيها يسبب الارتباك.

مسار الرواية التي تكون فيها البطولة لشخص واحد يمشي على خط شبه مستقيم، فالأحداث تقع إما بفعل الشخصية الرئيسية أو بجانبها، يستمر التسلسل على نمط واحد تقريباً، مع تشكيل الأحداث وتأثيرها.

البطولة المشتركة في الرواية تكون متعبة للكاتب أكثر من البطولة المفردة، ففي حال البطولة المفردة ينظر الكاتب للأحداث بعين البطل فقط، لكن عندما تكون البطولة مشتركة بين أكثر من شخصية، تختلف نظرة كل شخصية للأحداث التي تدور حولها، ويختلف التحليل، وعلى الكاتب أن ينتبه للعوامل المؤثرة مثل العوامل النفسية والاجتماعية والمالية لكل شخصية.

في البطولة المشتركة تكون للرواية مسارات إما تبدأ وهي ملتقية مع بعضها، أو تكون متفرقة ثم تجتمع، ومن الممكن أن تلتقي مرة أخرى بحسب التقاء الأحداث وتنافرها في الرواية ومدى تأثيرها في الشخصيات، هذا النمط له ميزة أنه يعطي الرواية تفاصيل أكثر، ويعمق الفكرة فيمكن للكاتب أن يطرح قضية واحدة، ويضع لها أكثر من تصور بحسب الشخصيات الموجودة في الرواية.

من الضروري للكاتب مراعاة الشخصيات النسائية في أدوار البطولة، حيث إن النساء يختلفن كل الاختلاف عن الرجال في الحالة النفسية والانفعالية والتأثر بالمشاعر وحالة الصدمة وردة الفعل، من الضروري أن يؤمن الكاتب الرجل بأنه لا يكتب عن نفسه، بل يكتب عن جنس آخر له تكوينه الفيسيولوجي المختلف، وكذلك الكاتبة المرأة يجب أن تراعي تلك الملاحظات عندما تكتب عن البطل الرجل، فالتفاصيل للأجناس البشرية تميز الشخصية، وتميز الحدث أحياناً.

“الرواية” الشخصيات الهامشية ..

في كل قصة توجد شخصيات هامشية، وهذا لا يعني أن الشخصية الهامشية ليست مهمة، بل تعتبر مكوناً أساسياً لا يمكن الاستغناء عنها إلى حين تُهمش أو تُتجاهل في الروايات التي تصف المشاعر، أو تتحدث بصيغة النفس دون التطرق للكثير من الشخصيات التي من المفترض أن تكون موجودة في الروايات التي تكون بصفة الراوي العليم.

الشخصيات الهامشية يمكن أن تلعب دوراً مهماً فبعض الأحداث الضئيلة التي يوضح الكاتب من خلالها أفكاراً صغيرة تستثمر فيما بعد في الرواية كأسباب، أو توضح الرأي العام إذا احتاج الكاتب للتطرق لذلك في روايته.

كما تُرقى الشخصيات الوسطى لمستوى البطولة في الرواية يمكن أن ترقية بعض الشخصيات الهامشية أيضاً لتحتل أدوار وسطى في الرواية، أو تكون مع الشخصيات الرئيسية، بحسب سير الأحداث ونظرة الكاتب لأهمية خلق شخصية تحرك الأحداث، أو تتطرق لجوانب جديدة في العمل.

الشخصيات الهامشية كما في الواقع البشري لا يمكن الاستغناء عنها وفي الغالب تكون أدوارها مكملة للشكل العام للرواية، ويمكن إغفال أحدها في أي لحظة، دون أن ينتبه لها القارئ، أو يعير لغيابها أي اهتمام.