قراءة في رواية “مذلون مهانون” لـ دوستويفسكي

ما يلفت نظري حين أقرأ للكتاب الروس مسألة الحب، كيف تحب المرأة الروسية وعمق العاطفة الموجودة لديها وقوتها، وهذه الرواية بها صور جميلة ومؤلمة من العواطف تلمسها في الأحداث كلها، وكل الشخصيات الموجودة في الرواية ما عدا شخصية واحدة التي جسدها الأمير “الأمير فالكوفسكي” والتي رسمت الشر بكل ملامحه والأنانية بأبشع صورها، وكتلة الخير التي تواجهه رغم كثرتها، إلا أنها ضعيفة في مقابل قوته.

هكذا تسير معظم روايات القرن التاسع عشر؛ حيث إن الشخصيات فيها إما أن تكون نافرة عن الأخلاق والمبادئ، أو تكون ملتزمة التزاماً كاملاً بها، وتمايز الشخصيات في الرواية يعطيها ملامح أقوى لشخصياتها الرئيسية، لكنه يغفل الجوانب البشرية الحقيقية، مثل الأنانية، حيث إن في كل إنسان جزء من الأنانية لا بد أن يتحقق في حياتهم وقس على ذلك كل الأمور الأخرى، إلا أن لـدوستويفسكي نظرة ثاقبة في الشخصيات، رغم أنه لا يخرج عن الإطار العام للشخصيات في زمانه، يخلف الشخصية متسقة مع الحدث الذي وضعه ويربطها بمحيطها وما يحتويه من أحداث وشخوص بشكل منسجم لا يجعلك تخرج عن إطار الفكرة العامة للرواية.

تحاكي الرواية زمن القرن التاسع عشر بما فيه من إقطاعيات وملاك أراضي وفقراء معدمون، وما فيه من سلطة ونفوذ، وما يحتويه من ذل ومهانة للفئات الدنيا من المجتمع، حيث يكون الإقطاعي أو الأمير مالك للأرض ومن عليها يحكم فيها كيف يشاء، وكيف أن النفوذ والقوة تزداد مع ارتفاع الطبقة الاجتماعية للإنسان دون وجود لقانون واضح وصريح يحمي الطبقات الدنيا في المجتمع، وعندما يرسم الواقع في رواية يمكننا أن نحدد ملامح المجتمع الذ تقع فيه، ونعرف ملامحه الرئيسية من خلال ما يحدث في الرواية، ونعرف العناصر الرئيسية في شخصيات المجتمع من تعاطي تلك الشخصيات مع ظروف الحياة، وهذه الرواية تكون صورة واضحة عن زمانها وشخوصها وعن ظروف الحياة التي تعالجها.

تعتمد الرواية على أسلوب الحوار، ونجد صوت “الراوي العليم” أو الشخصية الرئيسية في أجزاء متناثرة من الرواية لتشرح بعض النقاط المحورية، ورغم ذلك فالكاتب ترك للحوار المساحة الكافية لنسج الأفكار والاستماع إليها، مما جعل كل شخصية تتحدث عن نفسها، أو تصفها وتحللها الشخصية الرئيسية في العمل، فكانت الشخصيات متألقة ببرها أو بإثمها حسب الظرف الذي تمر به وحسب موقعها في الرواية.

لن أتحدث عن دوستويفسكي فهو كاتب يعرفه الجميع، ويقدره الكثيرون ويمكن للقارئ أن يجد ما يبحث عنه من إصداراته وما كتب عنه في الإنترنت، واكتفى بأن أتحدث هنا عن الرواية التي شغلني وأنا أقرأها المزاج العام للعمل حيث يقودك أن القوة هي التي تحكم في النهاية، وأن السعادة تكمن في الحب، رغم كل الظروف القاسية والتعيسة التي يمكن أن يمر بها الإنسان خلال حياته، أما عن الذل والمهانة لا تختلف هذه الصفات في روسيا عن غيرها من البلدان فالطبقات الدنيا معرضة للذل والمهانة وضياع الحقوق أكثر من غيرها من الطبقات.

الرواية كبيرة الحجم تقع في 524 صفحة من القطع المتوسط أنصح بقراءتها والاستمتاع بها.

الرواية .. الشخصية الرئيسية ..

هي المحور الأهم في الرواية، ورغم أن الكاتب يمكنه أن يضع أكثر من شخصية رئيسية في العمل الروائي، إلا أن القليل يتمكنون من عدم تضخيم أحد الشخصيات لتطغى على البقية، أو يكون لها حضور لافت في الرواية بحيث يكون تأثيرها هو المحرك الرئيسي للعمل، ويمكن الملاحظة بسهولة أن الكاتب يضع لتلك الشخصية الخارطة الأقوى في الأحداث.

محورية الشخصية الرئيسية ليست فقط لأن الأحداث تدور حولها، أو أنها تحرك الأحداث، بل هي مكون رئيسي في بنية الرواية وتكوينها، بحيث أن الخلل في الشخصية الرئيسية يؤثر في العمل بشكل عام، وكلما تمكن الكاتب من تجسيد الشخصية التي تلعب دور البطولة بشكل صحيح نجح في تكوين الجزء الأهم من لأن الشخصية الرئيسية تقع في القلب وأي خلل فيها يسبب الارتباك.

مسار الرواية التي تكون فيها البطولة لشخص واحد يمشي على خط شبه مستقيم، فالأحداث تقع إما بفعل الشخصية الرئيسية أو بجانبها، يستمر التسلسل على نمط واحد تقريباً، مع تشكيل الأحداث وتأثيرها.

البطولة المشتركة في الرواية تكون متعبة للكاتب أكثر من البطولة المفردة، ففي حال البطولة المفردة ينظر الكاتب للأحداث بعين البطل فقط، لكن عندما تكون البطولة مشتركة بين أكثر من شخصية، تختلف نظرة كل شخصية للأحداث التي تدور حولها، ويختلف التحليل، وعلى الكاتب أن ينتبه للعوامل المؤثرة مثل العوامل النفسية والاجتماعية والمالية لكل شخصية.

في البطولة المشتركة تكون للرواية مسارات إما تبدأ وهي ملتقية مع بعضها، أو تكون متفرقة ثم تجتمع، ومن الممكن أن تلتقي مرة أخرى بحسب التقاء الأحداث وتنافرها في الرواية ومدى تأثيرها في الشخصيات، هذا النمط له ميزة أنه يعطي الرواية تفاصيل أكثر، ويعمق الفكرة فيمكن للكاتب أن يطرح قضية واحدة، ويضع لها أكثر من تصور بحسب الشخصيات الموجودة في الرواية.

من الضروري للكاتب مراعاة الشخصيات النسائية في أدوار البطولة، حيث إن النساء يختلفن كل الاختلاف عن الرجال في الحالة النفسية والانفعالية والتأثر بالمشاعر وحالة الصدمة وردة الفعل، من الضروري أن يؤمن الكاتب الرجل بأنه لا يكتب عن نفسه، بل يكتب عن جنس آخر له تكوينه الفيسيولوجي المختلف، وكذلك الكاتبة المرأة يجب أن تراعي تلك الملاحظات عندما تكتب عن البطل الرجل، فالتفاصيل للأجناس البشرية تميز الشخصية، وتميز الحدث أحياناً.

الرواية “الشخصيات الوسطى”

لا أجد وصفاً أجمل من مسرح العرائس للشخصيات الوسطى في الرواية التي تنتقل أحياناً لدور البطولة ثم تخبوا، وتختفي دون أن يكون لها تأثير في مجرى الرواية، فيخلق الكاتب حبيبة للبطل أو حبيب للبطلة، عدواً، صديقاً أو معلماً أو أي شخصية تتناسب من أحداث روايته، وتدعمها في مراحل معينة، دون أن يقلق الكاتب من موجودها، فمثلاً لو كانت الشخصية شريرة، استمرارها في الرواية لفترة طويلة سيجعل الرواية تتحول لصدام، فيخلقها الكاتب كشخصية وسطى تؤدي دوراً مرحلياً، ثم يتخلص منها بالشكل المناسب الذي يدعم فكرته.

ببساطة الشخصيات الوسطى يخلقها الكاتب في وسط الرواية، أو في أولها، أو في نهايتها، ويرفع من أهميتها، أو يحط من شأنها، ويمكنه من خلال تلك الشخصيات إضافة بعض الجوانب التي يشعر أن روايته تحتاجها، ولا بد من معالجتها كالجوانب العاطفية أو النفسية، مثلاً يرى الكاتب أن النص تنقصه المشاعر، فيضخم دور العاطفة بوضع شخصية تلعب هذا الدور، وتأثر على البطل أو البطلة في الرواية.

الشخصيات الوسطى عكس الشخصية الرئيسية فالشخصيات الرئيسية هي التي تسير مع الكاتب من البداية إلى النهاية، أما الشخصية الوسطى فهي مرحلة، ربما تدخل في مراحل متقدمة في الرواية، وتحتل مركزاً في البطولة، لكنها لا تكون محور الحدث، بل تكون ملازمة لأحد الشخصيات الرئيسية، من الشخصيات الوسطى في الرواية شخصية الحكيم مثلاً أو المعلم، يضعها الكاتب كمرجع ليغير دفة الأحداث، فيكون التغيير مقنعاً، وهذه الشخصية لا تكون موجودة باستمرار، تظهر بين فترة وفترة، ثم تختفي من جديد، وتسير الأحداث دون وجودها.

لا نستطيع أن نصنف الشخصيات الوسطة في دور أعلى كالبطولة، ولا نستطيع أن نحط منها لنجعل دورها هامشياً، الإبداع أن يخلق الكاتب هذه الشخصيات، كما هي في الواقع، فكل إنسان لديه في حياته الطبيعية أشخاص في القمة وأشخاص في الوسط وأشخاص هامشيون، والإجادة في خلق الشخصيات الوسطى والتخلص منها بشكل مطابق أو قريب من الواقع يجعل الرواية تلامس شعور القارئ، وتوصل الرسائل التي يريد الكاتب أن يوصلها من خلالها.

كل شخصية توضع في الرواية تأثر فيها والكاتب هو الميزان ومهارته في السرد والتعبير هي التي تجعل لكل شخصية في الرواية رونقها الخاص، فحين يرفع الكاتب شخصية وسطى في الرواية عليه أن يجيد في رسمها بالشكل الذي يناسب روايته لكيلا يراها القارئ أو النقاد كنشاز.

الرواية: الشخصيات في الزمان والمكان ..

عندما أكتب نصاً قصصياً أو روائياً وأصف مكاناً أو شخصاً أو يكون هناك حوار يناقش قضية مهمة انتبه لعمر الشخصية التي تتحدث ، ولجنسه، ذكر، أنثى، والثقافة التي ينتمي إليها.

ولأشرح هذه المسألة قليلاً، لنفرض رجلاً في الخمسين يتحاور مع شاب في العشرين من العمر، من المهم أن يكون فكر الشاب مواكب لعمره وزمانه وثقافته، وكذلك الرجل الخمسيني، يجب ألا يخرج عن نظرة الرجل الكبير ذي الخبرة والوقار مثلاً، وعلينا أن نغير الشخصيات قليلاً لنكتشف بعض الفروق، لو كان رجل في الخمسين من العمر يحاور رجل في الأربعين ، من الطبيعي إن نوعية الحوار ستختلف لتتماشى مع الشخصيات، فعمر الأربعين أكثر اتزاناً من عمر العشرين، واندفاع الشاب، أقوى من اندفاع الشيخ .

مرة أخرى لنغير المشهد، ونجعل الشخصيات تصف مكاناً لنفترض أنه مقهى، تصفه ثلاث شخصيات ، شخصية شاب، ورجل كبير في السن، وامرأة في الثلاثين من العمر، فما الذي سيلفت انتباه الشاب وما الذي سيلفت انتباه الشيخ وما الذي سيثير المرأة الثلاثينية في المكان، ولنضع حسب نظرتنا إلى الأشخاص تصور لما ستنتبه له الشخصيات الثلاث، فالشيخ الكبير سيعجبه الأثاث العتيق في المقهى الذي يعطيه ملامح الأصالة، لكنه سيشتكي أن الكرسي غير مريح، والمرأة الثلاثينية لن يعجبها الأثاث القديم ، لكنها ستبتسم للوردة الموجودة على الطاولة، أما الشاب ربما لا يعجبه المكان برمته ولا جودة مأكولاته ، فهو يريد مكاناً يتسم بالحداثة، لكن تستهويه فتاة المقهى .

من الضروري أن يكون هناك اختلافات في شخصيات الرواية ومن الضروري أن تتناغم تصرفات الشخصيات مع الأحداث بما يتناسب معها، فالشخصية القوية في الرواية لا تستسلم دون مقاومة، ولا تتوقف عن المحاولة، والشخصية الضعيفة لا تتمرد إلا في حالات نادرة بدوافع معينة، وشخصية الرجل تختلف عن شخصية المرأة، والمرأة الكبير في السن تختلف عن الشابة في العشرين من العمر، وقس على ذلك، هذا لا يعني أن تكون الشخصيات نمطية لا تخرج عن السياق، لكننا يجب أن نحرص على أن تسير الشخصية حسب الصورة التي رسمناها للشخصية في الرواية ولا تخرج عنها إلا بقناعة أو حدث يستطيع أن يؤثر في الشخصية بحيث تتبنى تصور جديد أو تغير من سلوكها .

شخصيات الرواية هي الأساس الذي تقوم عليها، والخل في الشخصيات يولد الإرباك للكاتب ويشتت ذهن القارئ بحيث لا ينتبه لجماليات الرواية بل ينظر إلى الخل، فالتحول المفاجئ لشخصية مهمة في الرواية دون مبررات مقنعة يضعها الكاتب، تخلق فجوة بين واقع الرواية وشخصياتها، وتجعل القارئ يتوقع أن يتجه الكاتب للفنتازيا، وهذا الأمر لا يحدث إلا في روايات الكوميديا أو الفنتازيا ذاتها، لكننا لا نستطيع أن نقلب الشخصيات رأساً على عقب في الروايات الاجتماعية أو الروايات التي تحاكي التاريخ دون أسباب أو أحداث مؤثرة، تكون مبرراً مقنعاً لتحول الشخصية من قناعة لقناعة أخرة أو من تصرف متوقع لتصرف متهور أو شاذ عن السياق .

ما يميز الرواية ..

تحمل الرواية في طياتها خطاً زمنياً طويلاً يميزها عن باقي الأعمال الأدبية ولا يعني هذا أنها لا تحاكي الأزمنة القصيرة مثل اليوم أو الليل والنهار، فبعض الروايات حكت أحداث ليلة واحدة، لكنها حكتها بشكل مكثف يطيل مدة الحدث المحكي ليكون حدث مشروح بأبعاد أطول من الواقع دون إهمال الزمن الحقيقي للحدث، والعكس صحيح فأحياناً تحكي الرواية مدة تاريخية طويلة بشكل يختصر الزمن، لكنها في الحالتين لا تنكر الزمن الحقيقي للحدث أو للشخصية ، فخطوط الزمن تسير في الرواية بشكل منتظم أو مرتبك ضمن إطار محدد لا تتجاوزه، يزامن الشخصيات والأحداث، حتى السرد لا يخرج عن الإطار الزمني إلا ليشير إلى زمن سابق أو آتِ بشكل واضح.

الشخصية أو الشخصيات ميزة في الرواية ، فالرواية إما أن تحكي شخصية واحدة أو تحكي لعدة شخصيات، وتتنوع أساليب السرد فأحياناً لا تنال الشخصيات منزلة البطولة التي تكون للحدث أو للمجتمع، عبر عدة شخصيات ورغم ذلك تمر الأحداث عبرها لتصل للقارئ، وما يميز الشخصية في الرواية عن غيرها من الأنواع الأدبية هي أن الرواية تضع الشخصية موضع القلب فهي التي تبث الروح في الحكايا والأحداث والمحيط، وتتناول الشخصية بأبعادها المختلفة الإيجابية والسلبية، الجميلة والبشعة، بشرح طويل لكي تتشخص للقارئ فيعرف الأبعاد ونمط التفكير، مما يثير لديه المشاعر فيتعاطف مع الشخصية أو يكرهها.

المتعة، في هذه المسألة ألذ ما يشتهيه القارئ، وهي الهدف الأول الذي يجعل أي إنسان يقتني الرواية، فنظرة القارئ للرواية أنها عمل أدبي لطيف يحاكي الحياة والأفكار والقضايا والكوارث وتطرحها بشكل ممتع، رغم أنها تتضمن الألم والمصائب والكوارث، إلا أنها تتناولها بشكل يساير الواقع الإنساني العاطفي الذي يتفاعل مع الشخصيات والأحداث، أناس تبكي، تضحك، تحب وتكره إلخ..، فالمسار العاطفي لا يعني الحب فقط، بل يعني التعاطف والتفاعل مع كل شيء، المكان، الشخصيات، الأحداث والزمان، وكل تلك الأمور تصور المتعة باختلاف تصورات القراء، فالشباب تثيرهم العاطفة والجنس، لكنهم في الرواية يتتبعون التسلسل العاطفي المتنامي، ويمكننا القياس من هذه النقطة على كل نقطة اهتمام لدى القراء سواءً في التاريخ أو الفلسفة أو العلوم إلخ…

تأثير الرواية، علينا أن نرفع هذه النقطة لأعلى درجة، فتأثير الرواية لا يقع في القراءة فقط، بل يقع في النفس فالقارئ يعيش معها فترة من الزمن، ليست فترة صمت، بل هي فترة تفاعل وانجذاب سواء للحدث أو للشخصيات، مما يجعله يتلقى الأفكار بشكل أعمق وأكثر تأثيراً مما يتصور، كما أن تأثير الرواية على القارئ يكون بشكل تراكمي يسير من البداية حتى النهاية، حدة التعاطف والتفاعل لدى القارئ ترتفع تدريجياً، ولا يعني أن كل من يقرأ الرواية يؤمن بما تطرحه فربما تولد لديه نفور من تصرف أو واقع أو شخصية، أو تجعله ينظر بشكل عكسي لقضية معينة، لكن كل هذا لا يعني أن الرواية لا تؤثر في القارئ، على العكس تماماً فالنفور هو أمر نقيض الانجذاب لأمر آخر، الكاتب أحياناً يريد أن يُنفر المجتمع من تصرف شاذ أو يريد أن يجذب المجتمع له، فيختار القارئ الاتجاه الذي يراه أكثر صواباً أو الاتجاه الذي يرغب، والتأثير يقع عاطفياً في نفس القارئ وهذا هو التأثير الأقوى في حياة البشر .

الرواية .. الإغراء والجنس ..

عندما كنا شباباً نقرأ الروايات العاطفية بكثافة، تأسرنا شخصياتها، كنا ننظر إلى القبلة على الورق بلذة تفوق الواقع، وننظر إلى العاطفة التي أوصلت تلك الشخصيات للقبلة بشيء من اللذة الدفينة خلف العاطفة، بحيث يكون للمسة شعور وللنظرة شعور وللبسمة شعور، الحدث العاطفي المكتوب، يفجر الخيال لدى فئة الشباب على وجه الخصوص، فيعطي الحب قيمة أعلى وأسمى من الممارسة الجنسية، ويرسخ مبدأ أن العلاقة الجنسية لا تتولد إلى حين تكون هناك عاطفة صادقة مشتركة لدى الطرفين.

لكن هناك اختلافاً كبيراً بين الخيال والحقيقة فالحقيقة أن الرغبات الجنسية غريزة في الإنسان تتكون وتنمو حتى تصل إلى مرحلة الهوس إن لم يكن هناك أسلوب صحيح يفرغ شحنة الرغبة، ومن الطبيعي أن يختلف البشر في غرائزهم ورغباتهم، ويختلفون أيضاً في تصوراتهم للغريزة، وكيفية وصلهم لمرحلة اللذة النهائية.

لا أريد أن أشرح هذه الأمور، فأنا لست طبيباً ولا مختصاً في علم النفس كي استرسل في هذا الجانب، طرحته فقط لكي نواجه الواقع بعين تبين أن التفكير في الغريزة تفكير حقيقي لا يمكن إغفاله، رغم أنه يختلف من شخص لآخر، ولكي أتحدث عن هذا العامل الذي أراه مهماً في الروايات التي نقرأها وتثيرنا فيها تلك الحركات المغرية التي تجعلنا نتصورها في عقولنا بمتعة ولذة تفوق واقعنا أحياناً.

لا نستطيع أن نعزل الحقيقة في الرواية، مهما خلقنا مجتمعات فاضلة ومتدينة، فالغريزة باقية، والتنقيب عن المتعة مستمر، لكننا نستطيع أن نضع ذلك الهوس الجنسي في قالب من القدسية الذي يعطيه قيمة أكبر من كونه تفريغ شحنة غريزية، فنخلق له جانباً عاطفياً وجانباً نفسياً، وجانب أخلاقياً يوازن الثورة التي تشتعل في الجسد، ويعيدها لإطارها السليم، فالعاطفة في الحقيقة تعطي الممارسة الجنسية أبعاد ألذ من الممارسة العشوائية البهيمية، وهذا الأمر مرتبط بمدى رغبتنا في الاقتراب من المحبوب وملاطفته والشعور به، فتكون لحركاته معنى أجمل، ولقربه دفئ خاص ولقبلته شعور بالتواصل يفوق ما نريده من إثارة.

لا يمكننا أن نترك الجنس على الهامش، ولا يمكننا أن نغفله في الرواية وخاص العاطفية، فالعاطفة بين الرجل والمرأة مرتبطة بالقرب والحميمية، وحين يقتل الكاتب هذا الموضوع في روايته فهو يقتل جزءاً حقيقياً في تكوين الإنسان، ويجعل علاقة الرجل والمرأة جامدة، وتهميش العلاقة الجنسية في الروايات العاطفية، يفقدها الدفء العاطفي، الذي يريده البشر ويسعون إليه.

ما الذي على الكاتب فعله، حين يكتب رواية عاطفية؟ لا يمكنني أن أجيب عن هذا السؤال إجابة وافية، فكل إنسان ينظر إلى هذا الجانب من منظوره الخاص، وكذلك بحساسية مختلفة فللبشر تصوراتهم، وللكاتب تصورات وخيال، وكل ما يمكنني أن أقوله إن وجود الجنس في الرواية يجب ألا يخرج عن النسق الطبيعي، بحيث أن لا يترك القارئ الشاب الأحداث في الرواية، ويتتبع مراحل الجنس فقط، بل يجب أن يكون الجنس ضمن تكوين الرواية العاطفي، ويعتبر حدث فيها دون هدم الأحداث الأخرى، ونمو العاطفة هو ما يجعل الكاتب يسير في نسق مغري، دون أن يحوله لنسق جنسي متمرد على الرواية.

الرواية تعطي العاطفة القيمة الأكبر، وتأطر العلاقة الجسدية والمتعة الغرائزية في إطار جميل ومبجل بحيث تكون الأمور المتعلقة بالمحبوب في الرواية لها روابط خاصة ومشاعر خاصة، والرغبة لا يكون هدفها فقط المتعة، بل هدفها الرئيسي العاطفة ونموها، بحيث تكون الغريزة البشرية هي مرحلة جميلة في العلاقة العاطفية، ولا تكون هي الهدف والنهاية.

قراءة في رواية “كتاب الأوهام” للكاتب بول أوستر.

سأتحدث أولاً عن أسلوب الكاتب الذي يستطيع أن يوهمك أن كل ما هو حشو في الرواية مهم ومهم للغاية، وستقتنع بلا شك؛ لأن أسلوبه جميل ومقنع فرغم أن الرواية تقع في 351 صفحة، إلا أنها محشوة لأخرها بالفقرات المطولة التي تتناول جوانب فنية في الأفلام وشخصيات الرواية، ولو أن الكاتب كان غير متمكن لما استطاع أن يقنع شخصاً مثلي لا يهتم بالمجال السينمائي كثير من إتمام هذا العمل الذي اعتبره معقداً ومتداخلاً لأبعد الحدود، ونظرتي هذه لم تولد من فراغ؛ حيث إن الشخصية الرئيسية “أستاذ جامعي” تتحدث عن شخصية ثانوية، وتتابعها باهتمام لدرجة أنك تظن أن تلك الشخصية استلمت زمام الأمور في الرواية، وأن النهاية ستقع حين تختفي هذه الشخصية الثانوية، ثم يعود بك الكاتب للشخصية الرئيسية باندفاع يجعلك تعاود التفكير بأسلوب وفكر الشخصية الرئيسية.

تتحدث الرواية عن أستاذ جامعي يبحث في حياة ممثل قديم عمل في زمن الأفلام الصامتة واختفى فجأة، وهذه هي العقدة التي بنى عليها الكاتب كل أفكاره، ونسج حولها الأوهام التي اصطبغت بها الرواية، وستظن في وقت من الأوقات أن كل ما يقوله حقيقي، ثم يكشف لك الوهم الذي جعلك تتماهى معه وتصدقه.

لقد استمتعت بالرواية، وحرصت أن أتمها وأنا في كامل تركيزي، وهذا لا يعني أني لم ألاحظ الجوانب الأخرى السلبية ولا الأبواب التي مط فيها الكاتب الفصول على نحو معقد، وهو يتكلم عن تفاصيل أفلام بشكل مطول لبطله المفقود “هكتور مان” فكان من المقنع أن يشرح الكاتب فلماً واحداً لكي يوصل للقارئ مدى مهارة الممثل، لكنه استرسل أكثر وأكثر، وشرح أفلاما كثيرة بتفاصيلها الدقيقة، وقد شعرت بالملل في الفصول الأولى؛ بسبب هذا الشرح المستفيض.

نقطة أخرى تعتبر ميزة وعيباً في ذات الوقت فبطل الرواية الحقيقي هو أستاذ جامعي يبحث في حياة ممثل اختفى من الساحة في العشرينات من القرن الماضي، ومن كثافة البحث تعتقد أن البطل هو ذلك الممثل، وتنسى الأستاذ الجامعي، وتعتقد أن الكاتب دمج الشخصية الرئيسية بشخصية المتحدث “الراوي العليم” ولهذا الوجه ميزة وعيب فالميزة أن الأدوار تتبدل في الرواية والعيب أن بعد موت الشخصية الفرعية تشعر ببرود في الرواية، رغم أن الكاتب وضع الكثير من الأحداث المعقدة بعد موت الممثل، إلا أنه في اعتقادي كان يحاول أن يقنع القارئ بأن كل شيء تحقق منه في روايته لا دليل عليه، خلق الوهم في نهاية الرواية بشكل فج عبر سلسلة من الموتى الذين أنهى حياتهم بقلمه.

تقع الرواية في 351 صفحة من القطع المتوسط، جيدة في العموم أنصح بقراءتها.

قراءة في رواية “الزنبقة السوداء” للكاتب ألكسندر دوما

تستطيع أن تخمن كل أحداث الرواية وأنت تقرأها، لكنك ستكتشف أنك مستمتع بالقراءة، ولا تريد تجاوز أحداثها عبر خيالك فسير الأحداث كان بشكل كلاسيكي منتظم كما هي الرواية الكلاسيكية في أحداثها لها بداية واضحة وشخصيات واضحة وأحداث أيضاً واضحة وتنتهي بالسعادة.

هي زهرة، لكنها كانت تختزل الحياة والعمل والإنجاز والأمل والحب والخوف، وهذه النقطة الكثيفة في الرواية التي جعلتني أسير بشكل سريع في قراءتها لكي أرى الصورة من خلال الكاتب، وكيف تمكن من أن يجعل لتلك الزنبقة كل تلك القيمة العالية في قلب شخصيات الرواية، فهناك حب بين رجل وامرأة وهناك خيانة وحسد، وكل تلك الأحداث تتبلور وتتضح حول تلك الزهرة الجميلة التي تخلق فيها الحياة يد جميلة حانية، وتخلق بدورها الحياة في الشخصيات.

شخصيات الرواية كثيرة، لكن الأساسية والتي تدور حولها الحكاية هي ثلاث شخصيات كانت واضحة المعالم، بحيث أن تكون الشخصية النقية نقية في كل تفاصيلها دون شائبة والشخصية الخبثة غارقة في عمل الرذيلة، دون أن يخالط القارئ أي شك أنه سيصدر منها فعل مخالف، أو تردد في مساعيها السيئة وقس على ذلك كل المشاعر في الرواية، فكل شيء حاد في الرواية الأحداث والشخصيات والمشاعر بحيث تشعر وأنت تقرأ كأنك ستلمسها بيدك.

هولندا هي المكان والسياسة، رغم بعدها عن جمال الزهور ونقائها، إلا أنها ألقت قذاراتها على تلك النفوس الطاهرة التي كانت تتحرك في المحيط لتحقق الأحلام، هكذا مزج الكاتب بين القذر والنقي والخبيث والطاهر ليحدث صراع حول زهرة استطاعت أن تجذب الجميع إليها، فكلهم داروا حولها وكأنها الحياة رغم سوادها، إلا أنها تحمل القدر الكافي من الجاذبة والسحر لتشغلهم وتخرج ما بنفوسهم

تقع الرواية في 337 صفحة من القطع المتوسط، أنصح بقراءتها.

قراءة في رواية “المدعوة غريس” للكاتبة مارغريت آتوود

لم تكن رواية عادية فهي في الحقيقة قصة واقعية حدثت على أرض الواقع، وجُمِّعَت أجزاءها أكثر من مرة، وهذا الإصدار حول القصة إلى رواية لتصل إلينا مع لمسات أدبية جميلة، وفي قالب روائي أنيق، وعندما أقول أنيقاً فقط فإني أظلم الرواية فهناك إبداع تمكنت الكاتبة منه، ووضعته عبر الفصول بشكل متسلسل عبر شخصياتها واحداثها التي جمعتها وخلقتها.

أما شخصيات الرواية فهي كثيرة، لكن الأساس لم يكن المدعوة غريس، بل كان الدكتور النفسي المعالج “سايمون جوردن” فشخصية غريس مرت من خلاله للمكان والحدث، ومرت من خلاله كل الرسائل والمخاطبات والتحليلات والتوقعات والتخمينات التي رأيناها في الرواية، أما غريس فكانت هي محور اهتمامه ومحور التفكير الذي أنتج تصوراته وهنا تدرك أن العمل تجاوز الحدث وشخصياته بالنمط الرسمي لتخلق لنا الكاتبة شخصية جذابة نراها من عين فاحصة تدقق في الأحداث، وتحاول جاهدة أن تصل لأعماق المتهمة وتقرأها.

شخصيات الرواية بها أيضاً أمر جميل حيث أنها رسمت على حجمها في الرواية، فلم أجد أي شخصية متجاوزة لحجمها الروائي، أو نالت اهتماماً أكبر من قدرها ضمن القصة، وهذا تحكم يحسب للكاتبة حيث استطاعت تحريك الشخصيات في الرواية بما يوافق صورتها وقدر فعلها في الحدث.

تنوعت فصول الرواية، فمنها من بدأ بالحديث المباشر للمدعوة غريس، ومنها ما كان يتحدث عن حياة الطبيب نفسه وبعضها كان عبارة عن رسائل كتبت من وإلى الطبيب “سايمون جوردن” من أشخاص أحياناً يطلب منهم النصيحة المهنية أو الشخصية، حتى حين غاب سايمون عن المشهد ظلت الأحداث تمر من خلاله في نهاية القصة.

ترسم الرواية الكثير من مشاهد الحياة في كندا في تلك الفترة؛ مما يجعلنا نتعرف على الزمن بشكل أنيق بتفاصيله النسائية التي اقتصرت على الخادمات، ومنهم المدعوة غريس التي كانت تعمل في هذا القطاع، فكان الزمن وتفاصيل الحياة فيه مشروحة بشكل جميل وأنيق.

تقع الرواية في 517 صفحة من القطع الكبير أنصح بقراءتها مع العلم بأنها تحولت لمسلسل على تطبيق النت فلكس

قراءة في رواية “لعبة الحياة والموت” للكاتب الصيني مو يان.

تبدأ الرواية في زمن الإقطاع في الصين، ثم تنتقل إلى النظام الشيوعي بأنظمته وتعاونياته، وفي المرحلة الأخير  تنتقل للرأسمالية الشيوعية التي اعتمدتها الصين لتحاكي بذلك فترة زمنية طويلة من 1950 إلى 2000 ميلادي على ألسنة متعددة ومتنوعة وبعقول مختلفة أيضاً، فلم يكن العقل البشري وحده الذي يروي الأحداث، بل ينقل لنا الكاتب الأحداث على لسان البشر وعبر أجيال مختلفة، وعلى ألسنة حيوانات، نرى الأحداث في أبعاد مختلفة، ومن زاوية ضيقة أو واسعة حسب أهمية الأحداث، ورغم هذا التنوع فالأحداث تحكا لنا من روح واحدة هي روح “زيمن ناو” الإقطاعي، أو من أبنائه وأحفاده الذين يجسدون نفس المجتمع والبيئة، ويتأثرون بالتغيرات بشكل متساوِ في الأوقات كلها، ولنبدأ من البداية:

زيمن الإقطاعي: رجل يملك أرضاً واسعة، وزوجة نبيلة ومحظيتين، وكنوز يدفنها في أماكن مختلفة، ويتمتع بكل وسائل الترف، لكنه لا يستكين لكل ذلك، ولا يهمل العمل بيده، فنراه لا يمل هو يعمل بجد واجتهاد، ولم تؤثر فيه الثروة كثيراً، فنراه يساعد الكثيرين من مستأجرين الأراضي والمحتاجين وقت الكوارث، ورغم ذلك لم يسلم من سطوة الشيوعية التي لم تفرق بين إقطاعي جيداً وآخر سيئ، فحكم عليه بالإعدام رمياً بالرصاص، ومن نفذ حكم الإعدام رجل كان “لزيمن ناو” الفضل عليه، وعلى أسرته لكنه لم يتوان في تنفيذ الحكم في الإقطاعين الإمبريالي كما سمته الشيوعية.

زيمن الحمار: هنا حصل تحول كبير في الرواية فالحاكي الرئيسي أنتقل من لسان الإنسان للسان الحمار الذي يحمل روح بشرية، انتقلت ” زيمن ناو” إلى جسد يحتقره، لكنه مضطر أن يتعايش معه ويتأثر بغرائزه، ورغم ذلك تبقى المشاعر البشرية قوية لديه، حيث عاد إلى نفس قريته وعند الرجل الذي كان في يوم من الأيام يعتبر ابنه بالتبني “لأن ليان” والذي احتفظ له بالكثير من المشاعر الطيبة، وحافظ على استقلاليته، ولم يندمج في التعاونيات الشيوعية، كما أنه شعر بأن روح الحمار هي روح سيده وولي نعمته.

وعلينا أن نتخيل حماراً بذكاء بشري وبقوة حمار لا يمكنه الكلام، مشاعره تضطرب وتشتعل وهو يشاهد زوجته ومحظياته وخدمه وأبناءه، وكل أفراد المجتمع الذي كان سيداً مطلقاً عليه، وأرضه التي تقسمت لأفراد الشعب، ويستذكر مواقفه البشرية المؤلمة والجميلة وهو مقيد في ذلك الجسد الحيواني، ورغم ذلك تطغى عليه رغباته الحيوانية في الأكل والرغبة في التزاوج والتكاثر، وع ذلك كان يوثق مرحلة الانتقال من الإقطاعية إلى الشيوعية، وكيف تم دمج المجتمع في تجمعات تسلم كل ما تملك للتجمعات التعاونية، وكيف يُحَارَب المزارعون المستقلون وتفكك أسرهم ويسحب أبنائهم.

زيمن الثور: تعود الرواية بشكل مختلف أيضاً مع هذه الشخصية، لا على لسان زيمن الإنسان ولا زيمن الثور، بل على لسان ابن المزارع المستقل الوحيد في الصين “لأن جيفانج” الطفل الذي يرى مدى اجتهاد والده في أرضه وكفاحه للحفاظ على الأسرة التي تتكون منه وأمه التي كانت محظيته “زيمن ناو” الإقطاعي وأبناء الولد والفتاة، وتجسد هذه المرحلة تفكك الأسرة وانتقال الجميع إلى التعاونية الشيوعية وبقاء المزارع المستقل الوحيد في الصين وحيداً ليعاني كل أشكال الاضطهاد والتنمر والتعدي عليه وعلى أرضه الصغيرة التي تجاور أرض التعاونية.

حياة الثور لم تصور ذكاءه؛ لأنها لم تأتِ على لسانه كما في حياة زيمن الحمار، مما جعلنا نرى المشهد بشكل مختلف كل الاختلاف عن حياة يزمن الحمار؛ حيث إن الحاكي كان إنساناً يرى المشهد بشكل أكبر، وينقل المرحلة باتساعها للقارئ، لكن الكاتب لم يغفل أن الروح التي تسكن الثور روح نبيلة، فتكون المشاهد درامية وقاسية على روح نبيلة تتعرض لكل وسائل الإهانة حتى يصل لمرحلة الموت تحت قدمي صاحبه “لأن ليان” وعلى أرضه ليعطي قيمة للمستقلين.

زيمن الكلب: مزج الكاتب الحديث في هذه الشخصية بين لسان الإنسان ولسان الحيوان، فكان المتحدث صاحبه القديم هو “لأن جيفانج” الذي كبر وأصبحت له أسرة وعلى لسان الكلب الذي ولد في القرية نفسها، وانتقل إلى مكان آخر أكبر، فاستطاع الكاتب أن يرسم الصورة من زاويتين مختلفتين، الأكبر كانت على لسان الإنسان والضيقة على لسان الكلب، والمرحلة التي نقلها لنا كانت مرحلة انفتاح الصين على النظام الرأسمالي وتفكك التعاونيات الشيوعية ونقل لنا صورة صغيرة عن الخلافات بين وجهة النظر الشيوعية التي كانت تحتضر ووجهة النظر الرأسمالية المنطلقة في تلك الفترة.

زيمن القرد: كان الكاتب يظهر على لسان المتحدثين في الرواية في أجزاء صغيرة، لكن في هذا الباب والذي تلاه ظهر بصورته الكاملة، فأخذ ينقل لنا ما حول القرد وأحوال كل شخصيات الرواية وأحداث الواقع الذي عاشوه في تلك المرحلة ومالات الأحداث، واتسم هذا الفصل والذي بعده بنزعة دموية عند الكاتب في مشاهد تنوعت بين المرض وحوادث السيارات والتفجير وإطلاق النار ليخلط كل الأفكار التي يمكن أن يتوقعها القارئ، ولا أظن أنه بهذا تمكن أن يجعل القارئ مقتنعاً بتصوراته الشخصية التي بدت واضحة في الفصل الرابع والأخير، فقتل من قتل ودمر ما دمر لينهي المشهد بطفل له رأس كبير على حافة الموت لا يعرف أحد متى سيرحل.

 اللورد ياما: هو إله الأرض السفلى، ولا أعرف الكثير عنه إلا ما قاله الكاتب مو يان في روايته فهو من بنزع الأرواح، ويعيدها في أجسام مختلفة بعد محاسبتها فالآثم يعيده في جسد خبيث والصالح يعيده في جسد صالح، لكن الكاتب لم يصوره بشكل حسن فهو لا يحكم بالعدل في أحيان، ويكذب في أحيان أخرى.

الرواية ضخمة، وتشمل مرحلة طويلة من الزمن شهدت تحولات كثيرة في الصين كدولة وكمجتمع وإنسان صيني مر بكل المراحل الحرب والإقطاعية والشيوعية والرأسمالية، رغم أن المساحة المستخدمة للرواية في مكان يعتبر ضيقاً بالمقارنة بالزمن إلى أن المكان كان يعكس الصين بأكملها على حد تصوري.

الرواية شيقة وممتعة تعرفنا بالكثير من تفاصيل الصين كدولة وثقافاتها ومجتمعها، حتى الأمور الصغيرة مثل معاني الأسماء الصينة ستعرف كيف يسمي الصينيون أبناءهم، وستعرف نوعيات العلاقات والكثير من الأمور وأنت تقرأ الرواية.

تقع الرواية في 550 صفحة من القطع الكبير “A4” أنصح بقراءتها.

قراءة في رواية “في عمق البحر حيث لا تلمس الأرض” للكاتب فابيو جينوفيزي.

هناك في قرية مانشيني حيث لا تلمس الأرض، وتشعر بالغرق والضياع، لكنك لا تغرق، لا يعني أن تكون تحت البحر الغرق على الإطلاق، بل يعني اللا معرفة حين تقف أمام الأمور، وأنت تجهلها فتشعر أنك تغرق في جهلك، والجهل هنا ليس إنساناً بالغاً على العكس، فمن كان يغرق في أفكاره ومواقفه وحياته طفلاً في السادسة من العمر اسمه “فابيو” وضع التصورات كلها وسط عائلة كبيرة لا ينتمي إليها مباشرة فأعمامه العشرة لأمه أو أجداده كما يطلقون على أنفسهم كلهم عزاب وهو حفيدهم الوحيد، كانوا وثيقي الصلة معه، بل هم جزء من حياته اليومية أجسامهم الكبيرة وأعمارهم المتقدمة، ونظرتهم المتمردة للحياة، وقد أشركوه في كل أمورهم من حبهم الشديد له.

فابيو ذلك الطفل الذي ينمو وسط هذا الصخب يرى الحياة بعيون متلهفة للمعرفة تنمو فيه المشاعر والتصورات والأفكار بشكل عفوي غير موجه، ثم يكتشفها عينه وقلبه وعقله، يتدرج العمر وتسير الأيام ما بين السادسة والثالثة عشر، وهي الأعوام التي تحاكي المرحلة العمرية للطفل، وكيف تنمو لديه الفكرة حتى تتحقق أو تختفي، وكيف يكون تصوره الساذج حين يرى الواقع الحقيقي، والأمل يرافقه بقوة وإيمان.

ما جعلني أتوقف كثيراً أمام هذه القصة أمور بسيطة، لكنها لذيذة فمجرد أن تنظر إلى الأمور بعين طفل تشعر بالسعادة تتدفق، تتألم بعمق ويصيبك شغف لمعرفة العالم، وهذه الفكرة التي استخدمها الكاتب لشد الانتباه لأقصى درجة، استخدمها بإجادة ولغة بسيطة وسهلة بحيث أن الكلمات تتسارع وتلحقها الجمل والفقرات والصفحات والفصول، وأنت تقرأ دون انقطاع.

أيضاً هناك شيء قوي في الرواية وهي الحكاية، ولا تقف رواية فابيو عن حكاية واحدة طويلة، بل هي مزيج فخط حياة الطفل المتصلة من البداية إلى النهاية تتخللها حكايات أخرى طويلة، لكنها تنتهي في الوسط، أو قبل أن تنتهي من القراءة، وهناك حكايا كثيرة في كل فصل فالأطفال يخلقون الحكايات ثم يصنعونها في الواقع، وهذا أسلوب جميل يجعل القارئ مرتبطاً ذهنياً في أكثر من جزء من الرواية، ويتابع أكثر من حكاية في آنٍ واحد.

التحول في الزمن من طفل صغير يروي قصصه وقصص لأشخاص كبار، فيمتزج الزمن التصويري بين عقل الطفل وتصوراته للأحداث، حتى يصل للتفسير الصحيح، وكان هذا واضحاً في تعرفه على ميوله العاطفية والجنسية، فما بين تصوره والحقيقة كان هناك زمن الاكتشاف الذي يستغرق وقت أطول في مسيرة حياة الطفل، كما أن زمن الرواية الحقيقي منسجم مع الزمن العمري للشخصية فالأحداث تطابق زمن الشخصيات والتاريخ.

لا توجد شخصيات رئيسية كثيرة في الرواية، رغم وجود الأعمام الكثر، فيمكننا أن ندمج شخصيتهم في شخصية واحدة متمردة تتجاوز بعض الأحيان في الأمور الخاصة، الأب الأم الجدة وصديق واحد، وتبقى الشخصيات الأخرى في المحيط القريب، وفي نفس دائرة المستوى الاجتماعي للعائلة فلا يتجاوزها إلا حين التمرد أو رسم صورة الطبقات البرجوازية الغنية بمظهرها المادي المستنزف للمشاعر الباحث عن رغباته وشهواته، مما يجعلنا نتصور أن النظرة الشيوعية سائدة في الرواية، فالوحدة التي يخلقها الفقر متماسكة بعكس الترف وما يخلقه من نفاق ومجاملات واستغلال.

الرواية جميلة وممتعة تقع في 494 من الصفحات من القطع المتوسط أنصح بقراءتها بشدة.

قراءة في كتاب “رواية عزيز” للكاتب هاشم محمود

أيها السجان!

(أنا بذرة لن تختفي، ضع كثيراً من التراب فوق رأسي، واغمرني بالظلام، سأنبتُ في الزنزانة، وأقتلعك، وأثمر نوراً يحرق كل فلاسفة القضبان).

بهذا المقطع استهل الأستاذ هاشم محمود روايته، عزيز تلك الشخصية التي شخصنة السجن والزنزانة، ثمن الصدق في وطن لا يعرف قيمة الإنسان وعزيز يعرف أنه سيدفع ثمناً غالياً لمجرد أنه رفض أن يغير مبادئه، ويحرف معنى الإخلاص للوطن ويحول الإخلاص للحاكم، عرف منذ البداية أنه سيدفع الثمن “ثمن وفق ما يحدده أولئك الذين منحوه حرية الاختيار بين الحديد والنار”.

تتسلسل الزنازين، وتتابع أيامها وما يعانيه السجين من بيئة قذرة ومعاملة سيئة وتعذيب لا يجعله يفرق بين الأيام، الألم ممنهج والإهانة تستمر، كل هذا يصب في اتجاه واحد، إهانة المعتقل لانتزاع اعترافات في قضايا لم يفعلها لإبقائه بعيداً عن الساحة العامة التي يؤثر فيها، فخوف النظام لا من أفكار المعتقل، بل من مدى تأثيره في الجماهير، فكلما زاد تأثيره وعلاقاته الداخلية والخارجية نظرت إليه السلطات الدكتاتورية بنظرة ريبة وشك، ووضعته موضع الاتهام حتى تحين الفرصة الملائمة لتلقي به في السجن لتغيبه عن مجال تأثيره الفعال.

إن حب الوطن الذي يشير إليه الكاتب لا ينطوي على السيطرة الجبرية فحب الوطن هو انتماء يفوق لغة القوة، ويتعداها لمجال أرحب لا يعرفه العسكر الذين سيطروا على البلاد في غفلة من أهلها بدباباتهم وسطوتم، وفرضوا عليهم الخضوع والذلة، ومن يرون أنه لا يبجل سلطتهم يجب أن يموت أو يختفي، فكل شيء لدى العسكر له طريق واحد، الرأي واحد والقرار واحد والحاكم واحد، ويجب أن يتبعه الجميع ويطيعوه، فهو العارف العليم القوي الأمين.

عندما يصبح الحكم مأوى لمجموعة معينة تضطهد الفئات الأخرى؛ وهذه المجموعة مؤمنة بأن تلك الفئات لا بد أن تطالب بحقوقها طال الزمان أو قصر، وبما أن بطل الرواية مسلم نشط له تلاميذ وأتباع، ويملك هو ووالده مؤسسة تعليم ديني يتضح اضطهاد السلطات الأريتيرية للمسلمين لا لكرههم، بل خوفاً منهم، وتتجلى الإهانة بتهميشهم والنظر إليهم على أنهم فئة دونية يجب أن تخضع وتستسلم للسلطات، وإلا تسلط عليها ألوان العذاب.

تتناول الرواية عناصر مهمة في السجن سواء للسجانين أو المساجين، فالسجان بلا قلب، ولم يكتسب هذه الصفة بين عشية وضحاها، لكنه تبلد مع الوقت، وأصبح سادياً لا يبالي بصراخ وألم الضحايا، هدفه فقط أن يحقق غايته في تلفيق التهم وانتزاع الاعترافات عن طريق التعذيب، لكي يحيل المتهم لقبر آخر يقضي فيه بقية عمره، أو يعلق على أثره على حبل مشنقة.

أما السجين فهو الحلقة الأضعف وصبره لا ينبعث من قوته البدنية، بل من إرادته التي تقاوم الاستسلام، أوضح الكاتب الجوانب النفسية القاسية التي يعانيها السجناء والطرق البسيطة التي يحاولون من خلالها التغلب على قهر السجان وعزلة الزنزانة، الخيال يلعب دوراً هاماً في تلك الوحدة والإيمان كذلك، إلا أن كثافة التعذيب وقسوته تكسر أحيانا إرادة بعض المساجين فيستسلمون لقدرهم، وبعضهم لا يتحمل ويرحل عن الدنيا، دون أن تعقد له محاكمة أو أن يقف أمام قاضٍ.

قضية اضطهاد المسلمين في أريتيريا وبعض القوميات الأخرى من قبل السلطات، على عكس التعايش الذي يحدث في المجتمع، والفتن التي تثور بين الطوائف والأديان أغلبها إن لم تكن كلها من صنع أجهزة الأمن لكي تحكموا سيطرتهم على المجتمع.

لا زلت ألوم الأستاذ هاشم محمود على بخله، ففي الرواية الكثير الذي لم يقله، ولو فعل لأعطى للرواية ألقاً أكثر، لكنها رواية جميلة تحكي الثورة والسجن والاضطهاد تقع في 237 صفحة من القطع الصغير أنصح بقراءتها.

قراءة في كتاب “رواية على الحافة” للكاتب هانس بلاتسغومر

تسير أحداث هذه الرواية الكثيرة بوتيرة باردة تصور المشاهد تحت غطاء من الـلا ندم واللا مبالاة، لكنها تنطلق من البدايات الأولى، قواعد القوة الكامنة في روح لاعب الكاراتيه الذي يطبق القواعد الخمسة بحذافيرها، فتكون كلمة “شتوتسه” هي الكلمة المحورية في الرواية بدايات الطفولة والشباب والحب، بدايات الموت والصمت والعزلة، وبدايات العجز والنهاية.

يتسلسل البطل في الحكاية، ويتدحرج خلال الزمن عبر كل المراحل بنفس الوتيرة الباردة، فتنعكس تلك البرودة على كل تصرفاته حتى في حالات العنف التي يرسمها تشعر أنه مشاهد ميتة وكأنه يقول لك: هذه المواقف لا تعني، إلا أنها ذكريات في سجل سيرمى في مكان ربما لا يطل على أحد فلا تهتم لها وواصل معرفة الحقيقة، دون أن تتألم لما حدث، فكل شيء يسير دون نظام ونحن وحدنا من يتصرف في هذه الحياة، نجلب السعادة والشقاء لأيامنا.

هذا الذي طرحته ربما يكون مجرد استنتاج، لكنه ترسخ لي وهو يروي كيف قتل جده، وكأنه إنسان يريد الجميع أن يتخلص منه، ولن يسأل أحد كيف مات؟ ومن قتله؟ مشهد موت بارد جداً، لا يشعر بعده البطل بأي تأنيب ضمير، وعلى العكس تماماً يشعر أنه أنجز شيئاً يجب إنجازه، يتكرر هذا المشهد في حالة موت صديقه الذي يطلب منه أ، ينهي حياته، فيقدم على قتله، لكن في مشهد موت صديقه كرس نضرة أن الإنسان الذي يعاني يريد الموت، وكأنه بذلك يبرر أن كل معتل صحياً لا يمانع أن يقتله أحدهم لينهي معاناته، وبذلك يكون هو في منزلة المتحكم والمسيطر على الضحية، ويقدم لها النهاية المرجوة.

في مشهد موت زوجته والطفلة التي سرقاها، كان المشهد أكثر احتداماً من سابقيه؛ حيث إنه شعر بالفراغ بعد رحيلهم وشيء من الندم، ربنا لأنهم ماتوا وهم بصحة جيدة، أو أنهم تركوا في حياته مساحة فارغة لم يستطع تجاوزها بعد رحيلهم الأبدي، ومن وجهة نظري أنه وضع القاعدة الأساسية لشخصية البطل في هذا المشد حيث أ، كل إنسان لا يعنيه لن يترك أثراً في ذاكرته، وإن كان يعنيه ستبقى ذكرياته موجودة، لكنها لن تؤثر في سير حياته، وسيتجاوزها في عبر مراحل.

أما المشهد الأخير مشهد الحافة والنهاية الهاوية للعدم، لم يخلقها الكاتب لكي نقف عندها ونتأمل، بل وضعها لنرى كيف تعيش شخصية البطل كل التناقضات والصراعات ببرود، حتى تكون نهايته بالوتيرة نفسها، والاعترافات التي كان من الواجب أن يقولها بصدق أمام محقق، تركها على الورق لتلقى مصيرها، دون أن يحدد ذلك المصير الغامض.

جميلة الرواية في ذكرى البدايات، وبليدة في ذكرى النهايات، وباردة في المشهد الأخير، لكنها رسمت شخصية البطل بتصورات صحيحة من وجهة نظري، فشخصية باهتة صامته قليلة التفاعل لا يمكنها أن تواجه العالم بأخطائها، فكانت النهاية على الحافة والحقيقة مدفونة في حقيبة تحت إحدى الصخور التي تجثم على صدرها.

جميلة الرواية ومشوقة أنصح بقراءتها تقع في 184 صفحة من القطع المتوسط.

أن تعودي فلسطين للكاتبة: الفلسطينية التشيلية: لينا مرواني

قدمت ورقة العمل هذه في قراءة للرواية ضمن فعاليات الصالون الأدبي لبيت الراوي

تعريف بالكاتبة:

لينا مرواني (1970-)، كاتبة وروائية فلسطينية، ولدت في سانتياغو لأب فلسطيني من مدينة بيت جالا وأم إيطالية وتحمل الجنسية التشيلية. حاصلة على درجة الدكتوراه في الأدب الإسباني والأمريكي من جامعة نيويورك وتشغل منصب بروفسور أكاديمي وتقوم حالياً بتدريس الأدب والثقافات الأمريكية واللاتينية في ذات الجامعة، وحالياً معارة في جامعة مدريد بإسبانيا لتدريس أدب أمريكا اللاتينية.

وتعتبر من أهم كتاب التشيلي الذين تناولوا مسيرة الفلسطينيين في أميركا اللاتينية. وترجمت أعمالها من اللغة الإسبانية إلى اللغة الإنجليزية والإيطالية، والبرتغالية، والألمانية، والفرنسية.

المجالات التي كتبت فيها:

الشعر، الرواية، القصة القصيرة، المقال، ولها اهتمامات سياسية

الجوائز:

جائزة خوسيه دونوسو للأدب الأيبيري الأمريكي‏ (2023) وسام الثقافة والعلوم والفنون الفلسطيني (2022) زمالة غوغنهايم الهيئة الألمانية للتبادل الثقافي جائزة سور خوانا إينيس دي لا كروز‏ الصندوق الوطني للفنون، وجوائز أخرى.

الأعمال:

• أن تعودي فلسطين

• مقبرة قزحية للروح

الروايتان مترجمتان للعربية

وكتب أخرى باللغة اللاتينية

الرواية من أدب المهجر ..تروي فيها الكاتبة تجربتها خلال رحلتها إلى فلسطين المحتلة.

أن تعودي فلسطينرأي في الرواية..

غربة لم تكن في المهجر فقط، كانت قبل ذلك في الوطن الأم، حيث النظرة في العهد العثماني للمسيحي مختلفة وكأنه جاء من خارج الزمن رغم أنه فلسطيني الجذور، هذا ما تناولته الكاتبة في بداية روايتها، النظرة الناقصة للمواطن الذي يحمل ديانة مختلفة عن ديانة الدولة فيتهم في انتمائه وإخلاصه حتى يشعر بالخوف والغربة في وطنه، فيغادر ليفقد الوطن والهوية معاً ويجمع شتاته في الخارج البعيد هروباً من المصير المحتوم في التجنيد الإجباري الذي فرض على جميع مواطني الدولة العثمانية.

لا تنتهي مأساة الفلسطيني المسيحي عند هذه النقطة فالمهجر لم يكن بهذا الاتساع ليحتويهم أو يوفر لهم الرفاهية المطلوبة من الوهلة الأولى، ورغم ذلك ينجح الفلسطيني في خلق مجتمعه الخاص ويحيط أبنائه بذكرياته ويغذيهم بمشاهد الوطن الأم، ورغم هذا الارتباط لا يفكر في العودة للوطن من جديد لأنه يحمل كل المشاكل السابقة واللاحقة للاحتلال الصهيوني، يصل لأقرب نقطة لوطنه الأصلي لكنه لا يفكر في الدخول لا بسبب الحواجز العسكرية، بل بسبب الحواجز النفسية، فمجرد أنه يعرف أن الأرض لم تعد أرضه خلق لديه حاجز لا يمكن أن يجتازه.

يمسك بجذوره بقوة لكيلا تتفلت ورغم أن الأبناء انتموا للوطن الجديد إلا أنهم يحملون بذرة فلسطين والعائلة الفلسطينية في داخلهم وأقل تذكير لهم بأصولهم يعيد لهم الانتماء الأساسي الذي ينمو رغماً عنهم ومع ذلك هم لا يحملون في مخيلتهم مشاهد من الوطن الأم، بل مجرد ذكريات نقلت لهم عبر القصص والحكايات وبعض الصور.

علاقة فلسطينيو المهجر بالأرض ورغبتهم في معرفة تفاصيل الجذور التي تربطهم بالوطن الأم من مباني، أشخاص، أدوات، والمقارنات التي تثور بين الموقف وردة الفعل لتحلل الواقع وتشرحه.

التفاصيل التي تتطرق لها الكاتبة بشكل مكثف هي تفاصيل العلاقة بين الإنسان الفلسطيني والعسكر الإسرائيلي وبين الفلسطيني والإسرائيلي المدني، وبين الفلسطيني في الداخل 48 والمهجرين، وتميز بين الكلام والفعل، فبينما يكون الحديث متسامحاً من قِبل فلسطينيي الداخل 48 يكون الفعل من الإسرائيليين مخالفاً لهذا التسامح ويتشح بالعنصرية أو الاتهام متمثلاً في الحواجز الأمنية واحتلال المباني لأيام لمجرد الشك بوجود عنصر مقاومة، مع العرب المهجرين والعرب عموما..

تنقل الكاتبة الصورة كما يعيشها أي زائر لإسرائيل يخرج من مناطق النفوذ اليهودية ويجرب التحرك كفلسطيني والصعوبات التي يواجهه من حواجز أمنية ومضايقات وتنقل بعض المشاهد التي نراها غريبة رغم أنها موجودة على الأرض وتصف بشكل جلي طول صبر الإنسان الفلسطيني على الضغوط والمضايقات المتكررة، وتوضح بشكل جازم أن الفلسطيني يراهن على البقاء والصبر.

ترجع للتاريخ القديم قبل قيام إسرائيل وتتطرق السيدة مرواني إلى إشكالية عودة الفلسطينيين الذين فروا من الحكم العثماني وإصرار بريطانيا على عدم منحهم الجنسية الفلسطينية وقد اعتبرتهم أتراك لا ينتمون لفلسطين، ثم تغيرت الوجهة بعد ذلك وتمت قَولبت الفلسطينيين ليكونوا عرباً لا ينتمون لفلسطين والقصد في الحالتين واحد، إبعاد الفلسطينيين وتسهيل حصول اليهود المهاجرين القادمين من دول غريبة على الجنسية الفلسطينية بسهولة دون التدقيق في أصولهم.

من ضمن المآسي تنقل الكاتبة معاناة المهاجرين في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وما يمرون به خلال تجديد إقاماتهم وما يقاسونه من تمييز بسبب الجنس أو العرق أو اللغة، وكأن الصورة في داخل إسرائيل وخارجها تتطابق في التفرقة والعنصرية والإذلال.

والأسئلة تتكرر ..

• أين موطن عائلتك الأصلي؟

• ما هو المنزل بالنسبة لك؟ أو ربما تقصد هل تعتبر الولايات المتحدة هي منزلك؟

• ما هي اللغة الأخرى التي تتكلمها غير الإنجليزية؟

كلها أسئلة محرجة لطلبة متعددي الجنسيات تتحدث عن الانتماء للوطن أيهما تقصد الوطن الأم أم المهجر، وهل المهجر هو الأمان أو الانسلاخ من الحقيقة لاعتبارات تختلف من شخص لآخر، متعددي الجنسيات يمثلون العالم الآخر العالم والصورة المؤلمة لعصرية الجنسية والأرض.

جدران العزل والفصل العنصري التي انتشرت في العالم في فترات سابقة كلها متشابهة تفصل القوي عن الضعف والغني عن الفقير وصاحب الحق عن الظالم ثم تنتقل إلى كاميرات الرقابة التي تلاحق الوجوه وتبيعها كمعلومات للأجهزة الأمنية والجيوش وهذه النقطة مستخدمة بكثافة في فلسطين لكن الكاتبة لم تذكر هذه النقطة عن فلسطين لكنها ذكرتها في وسط الرواية في ألمانيا، تشبه تلك الكاميرات بجاسوس صغير.

تتطرق الكاتبة لمشكلة اليهودي الأصلي وتذكر مسألة الوثائق التي تثبت أن الفرد “يهودي” وكيف أن الكثير من اليهود اضطروا لتغيير أسمائهم لأسماء مسيحية نتيجة الخوف من السلطات الشيوعية مثلاً، والإجراء الذي تبع ذلك مثل تحليل الدي أن أيه وما يثور حول صدقية هذا التحليل من عدمه طبعاً هذه في فترة الحرب العالمية الثانية وما تلاها.

من الصفحة 245 حتى نهاية الرواية لم تذكر فلسطين وتطرقت كما أشرنا إلى الأصول اليهودية في أوروبا وتحليل الدي أن أيه والرقابة بالكاميرات والهواتف وتصنيف المسافرين لإسرائيل وهذا الأمر يجعل القارئ ينسى الموضوع الأساسي للرواية بحيث أن أصبح اليهودي هو الغالب على المشهد دون أن تربطه بفلسطين أو إسرائيل.

تنتقل الكاتبة للقاهرة وكعادتها تبدأ بشرح الأحداث من البداية المطار ورجل الأمن والفندق والحسين والمقاهي والباعة ولباسها ومشاكلها التي تواجهها بسبب اللغة كذلك لكونها سيدة وما تفعله لكيلا تلفت الأنظار لها مبتعدة عن المجال الحيوي للرواية التي من الواجب أن تتحدث فيها عن فلسطين

الكثير من المشاهد تنقلها لنا الكاتبة في فقرات صغيرة أو في صفحة أو اثنتين لكن كثرة المشاهد لا تعني تحقيق هدف الرواية، بل تعني أن الكاتبة أرادت نقل الأحداث التي تشاهدها دون أن تفكر في نسق واحد وكأنها تكتب أدب رحلات لموطنها القديم مخلة بذلك في صناعة روايتها التي أصبحت أرشيف للرحلة أكثر من كونها رواية.

لا أعرف هل اشترطت الكاتبة أن تكون الجمل الإنجليزية في الرواية كثيرة، أو إن المترجم أبقاها كما هي ولم يترجمها مما يسبب إرباكاً للقارئ.

تختم الكاتبة الرواية بمشهد درامي “مستغرب” حين تعلق في الزحام ولا تجد من يرشدها لوجهتها متجاهلة بذلك كل وسائل المساعدة الإلكترونية من ترجمة وخدمة المواقع وغيره وكأنها تشير لبشاعة العيش في دولة عربية لدرجة أنها تختم الرواية بجملة تتنصل فيها من أصلها الفلسطيني بقولها: ((أكلم نفسي هي ليست بعودة، بل مجرد أرض تطأها قدماي لأول مرة أرض ليس لها أي وجود في ذاكرتي، ولو صورة واحدة منها، فلطالما كان كل ما هو فلسطيني، بالنسبة لي هو مهمة يُسمع صوتها في الخلفية، قصة نلجأ إليها لننقذ أصلنا المشترك من الاندثار، إنها عودة نعم لكنها ليست بعودتي أنا، هي عودة مستعارة، أي أن أعود بدل آخرين، بدل جدي، بدل والدي)) علماً بأنها لم تذكر في الرواية أن أحد طالبها بالعودة لفلسطين أو زيارتها، من بادر إلى ذلك لتبحث عن أصول عائلتها وضل هاجس الهوية شاغلها حتى في الفصول التي لم تذكر فيها فلسطين.

المسألة التي تكررت ليست فلسطين بثقلها الثقافي، بل قضية الهوية، لكل الأجناس اليهود المهاجرين الملونين العرب، ومدى قبولهم في المجتمعات التي يلجؤون إليها، واجتهادهم الدائم أن يُنظر إليهم كأشخاص عاديون ضمن المجتمع، فتكون الصورة أن المجتمع ينظر إليهم بغرابة وحذر وهو يبذلون أنفسن لكي يقبلوا في ذلك الوسط.

مشاهد منفصلة:

  • احتفال الفلسطينيين بسقوط أبراج التجارة مع الحدث وكأنهم هم من قاموا بفعله وتبنوه.
  • مشكلة عرب 48
  • سلطة المستوطنين في الضفة الغربية التي تفوق سلطة الفلسطينية الذين يشكلون الأكثرية بنسبة تفوق 500%
  • الأسلاك الشائكة والحواجز
  • رمزية المفتاح في القضية الفلسطينية الذي حملته الأسر وهي تغادر فلسطين على أمل العودة
  • حالة العداء بين الإسرائيليين وعرب الداخل متأصلة.
  • طريقة استقطاب الأشخاص للحضور لفلسطين تشمل البعث الدراسية
  • اليهود المعارضون لوجود إسرائيل ينظرون أنها خطأ ولا يجب أن يعودوا لفلسطين إلا حين يظهر المسيح.
  • مشكلة الملونين وتصنيفهم في العالم الغربي أوروبا والولايات المتحدة
  • اليهود خارج إسرائيل والوافدين لها والذين لا يحملون هوية دينية واضحة
  • تفصل الرواية أجزاء بعيدة عن المضمون مثل زيارة متحف اللوفر
  • ما يعانيه الكتاب في أوروبا حين يتم الحديث عن فلسطين وقضيتها حتى لو كان من عرب المهجر ولا يجيد اللغة العربية
  • الاعتبارات التي يفكر فيها النشطاء حين يفكرون في زيارة فلسطين وكيف يجتازون أسئلة رجال الأمن الإسرائيليين
  • كيف يعالج الفلسطينيون والنشطاء انتظارهم على الحواجز الأمنية
  • ازدواجية تعامل ألمانيا بيت الإسرائيليين والفلسطينيين
  • تقنيات المراقبة الإسرائيلية تمتد حتى تراقب الوجه عبر تقنيات متطورة
  • أثر المساعدات
  • المحاولات المتكررة للسيطرة على الأراضي الراعية وإجبار أصحابها للتخلي عنها بوسائل الضغط المستمر عبر وسائل غريبة أحياناً
  • دور النشطاء الفلسطينيين في نشر الأدب والثقافة دون قبول أي دعم موجه أو بشروط
  • محاولات دخول المسجد الأقصى الفاشلة لمن ليس بمسلم ولم توضح الكاتبة هل المنع من الأوقاف الفلسطينية أو من الأمن الإسرائيلي.
  • مغالطات الإسراء والمعراج نقلتها بشكل أسطوري وهي تتحدث عن دابة البراق.
  • الأحياء التي هجر منها الفلسطينيون في 48 ومن سكنها بعدهم وبعض مشاكل الإسرائيليين أنفسهم والتفرقة التي تتم بحسب الجنس والعرق .
  • تنقلات الفلسطينيين وإجبارهم على الحصول على جنسيات مختلفة.
  • غرفة وداع الأهل والأصدقاء التي كانت موجودة عند جدار برلين والرقابة الشديدة على الوثائق.
  • الازدحام في القاهرة.
  • عدم احترام المصريين للمواعيد

مناقشة رواية أن تعودي فلسطين

مناقشة رواية أن تعودي فلسطين للكاتبة التشيلية لينا مرواني عبر فعاليات الصالون الأدبي لبيت الراوي

الجزء الأول

الجزء الثاني