قراءة في رواية العالم لـ خوان خوسيه مياس ..

قراءة في رواية العالم لـ خوان خوسيه مياس ..

أظن أن أي كاتب سوف يقرأ هذا العمل سيشعر بسهولة أن كاتب الرواية يتحدث عن نفسه ، ولا تعني هذه النقطة شيء في الواقع ، لكن صياغة نقاط الارتكاز التي تتضح كبؤرة في حياة الكاتب يعود إليها في أعماله دائماً وهو الأمر الذي يشير إليه الكاتب بانتظام في روايته العالم والتي أستطيع أن أسميها عالم مياس الذي جعله يكتب ، يجعلنا نركز في الأحداث لنكتشف الكاتب نفسه .

الرواية سلسة وأستطيع أن أجزم أنها كذل بلغته الأصلية التي كتبت بها ، لأن الكاتب يتحدث عن نفسه دون قيود بل يرحل عنها ويعود إليها دون قيود ، يكرسها في أعماله ويستوحي منها ويضيف إليها المزيد من الأحداث ، ثم يعود ويضع نقطة ارتكاز أخرى في الحدث نفسه كأنه كان يكتب من ذاكرته المجردة دون أن يكون هناك إعداد مسبق لما يريد أن يكتب .

الخيال الذي يتحدث عنه الكاتب والذي تشك أحيانناً أنه حقيقي في بعض القصص ثم تبدأ تشكك هل القصة كلها خيال أم أن القصة واقعية أم أن بعض أجزائها واقع والآخر خيال ، فمهارته حين يضع مشهد خيالياً في وسط مشهد حقيقي ينقلك لتصور آخر ثم يعيدك لنفس المشهد الحقيقي فتبدأ المقارنة بعد أن تنتهي من المشهد لتكتشف ما هو حقيقي وما هو مزيف إن استطعت التمييز .

أظن أن كل من سيقرأ الرواية سيقرأها بسلاسة ، لكن من يستطيع أن ينتزع منها الحقيقية ومن يستطيع أن يكتشف الخيال ومن سينقل الحدث على أرض الواقع ليعرف ما يعنيه الكاتب من أبعاد في قصص أثرت فيه لدرجة أنها أصبحت نقاطاً عميقة في نفسه يعود إليها لا شعورياً في أي زمان وأي مكان ، وهنا نجد أن الكاتب حبيس تلك المواقف التي تسكنه ، كل مشاهد الطفولة من بؤس ومن ألم ومن خيال وإغراء وأمل ، تسيطر عليه لدرجة أنه لا يستطيع أن يتخلص منها  وإن اجتهد وأن تعاطي الحشيش أو أي شيء آخر يساعده لكي ينفصل عن الواقع ، واقعه الذي يعيشه في داخله ونزعة إلا انتماء التي يعيش فيها .

ورغم أنه لا ينتمي إلى عالمه يكتشف أن العالم كله يعرف أنه مياس ، وقد كرس هذه المسألة في المشهد الأخير من الرواية حين ناداه الرجل “مياس أرجوك ساعدني” كأنه اكتشف أن مياس هذا ليس والده بل هو وهو في واقعة حقيقة وإن لم ينتمِ هو لعالمه فعالمه ينتمي إليه بالفعل .

الكثير من الإسقاطات في الرواية يمكننا أن نقف عندها فالكاتب ربط بين أمور كثيرة يمكننا أن نكتشف بسهول أنه لا يربطها شيء حقيقي لكنها ترتبط في عقله بين حالة عاش فيها وآلة كالمشرط مثلاً أو القيد الذي وضعه في حياته “فوبيا الأماكن المزدحمة” وعودته من النافذة للبدروم الذي كان يراقب من خلاله الشارع فلم يتخلص من هذه المسألة لأنه عاد من النافذة نفسها لمكانه ولم يغير وجهته ويعود من الباب الصحيح .

الدين في الرواية ، الكنيسة الألم جهنم الجنة لا تغيب عن واقع الكاتب الذي قال “فكرة الخلاص في ثقافتنا ترتبط بتفادي جهنم أكثر من الفوز بالجنة” وكأنه يخاطب الواقع سواء كان واقعه المسيحي أو واقع أي دين على وجه الأرض ، لكنه يبتعد عن الدين ثم يعود إليه يهرب منه ويجده أمامه في كل مكان ، يهرب من الأكاديمية التي تشرف عليها الكنيسة لما يعانيه فيها من تعذيب ليعود ويلتحق بمدارس اللاهوت ليصبح قسيساً ثم يخرج من كل هذا ويصبح كاتباً ، لكنه لا يستطيع أن ينسلخ من واقع الدين الذي يحاصره ، في الرماد الذي سيؤول إليه كما آل إليه الراحلون قبله .

الرواية جميلة وسلسة والعالم هو عالم خوسيه مياس الذي لا يريد أن يستغني عنه تقع الرواية فيما يقارب 240 صفحة ترجمتها جيدة جداً .

قراءة في كتاب رواية “هكذا كانت الوحدة” لـ خوان خوسيه ميّاس

قراءة في كتاب ( هكذا كانت الوحدة ) لـ خوان خوسيه ميّاس

الوحدة أو السيدة التي تمثل اللا شيء ، لا يهمها شيء ، ولا هي تهم أحد ، فهي لا شيء ، وال لا شيء أحب أن أطلقه دائماً عند الحديث عن اللامبالاة بشكل عام ، فحين لا أبالي بمن حولي ولا أريد أن يهتم أحدٌ بي كإنسان ، هنا يموت الشعور ويموت الإحساس بالآخر ويموت الإحساس بالعواطف البشرية التي كانت إلينا الشخصية الرئيسية في الرواية تحارب لتقتل كل اهتمام بمن حولها ، وتقتل اهتمامهم بها .

الرواية كنسق جميلة وككتلة جميلة لكن لا أظن أن المترجم أعطى الرواية حقها في الترجمة فهي مختزلة بشكل لافت للانتباه ، وأظن أنه قتل الكثير من الجوانب التي تتضمنها الرواية في التفاصيل ولا أعرف ما الاعتبارات التي دفعته لذلك ، لكن الاختصار واضح جداً في هذه النسخة من الترجمة العربية للرواية المتوفرة بكثرة في الإنترنت .

 تدور الرواية حول سيدة متزوجة في الأربعينات من العمر تدمن الحشيش وتبدأ بمشهد موت بارد ، تتبعه أحداث أخرى يعتريها البرود وعلاقات جامدة ، الباقي منها خيوط رفيعة ، وتتسلسل الأحداث حتى تقطع البطلة إليينا كل تلك الخيوط وتعيش في عالم من الوحدة تصاحب أفكارها وتخيلاتها وتكتب مذكراتها ، تنعزل في النهاية عن كل أحد له صلة بها ، لكنها تبقى خيطاً رفيعاً لمشاعر الذكريات ، والحب ، فصورة التحري الذي استأجرته لكي يتابع تحركات زوجها الذي كانت متأكدة من خيانته ، تحولت لتكون متابعة لها هي وكأنها تقول أنا محتاجة أن يراني أحد دون أن يلمسني أو يقترب مني ، أحد لا أراه ولا أعرفه يشملني بالرعاية عن بعد ، وهذا ما وصل إليه الأمر مع مكتب التحري الذي كان يجهل من الذي طلب متابعة تلك السيدة .

علاقات أسرية ميتة في الرواية كعلاقة البطلة إليينا بوالدتها التي بدأت الرواية بالحديث عن وفاتها ، وصورة البرود لدى البطلة التي تعود بعد فترة في الرواية لتجسد شخصية والدتها وتتجسد هي تلك الصورة في نواحي كثيرة من حياتها ، ورغم إيمانها بالكثير مما كتبته والدتها في مذكراتها إلى أنها ترى أنها تحولت لقرينة لوالدتها تعرفها لكن لا يجب أن تتواصل معها .

الحشيش ذلك العالم الوهم الذي بدأ يشكل عالم البطلة إليينا ويرسم صورة ، والذي تخلت عنه بعد أن ترسخت تلك الصور في شخصية البطلة وعلاقة الحشيش كعلاقتها بزوجها الذي انتهى فجأة مع آخر سيجارة حشيش دخنوها سوياً وآخر لقاء لهم في الفراش ، وقد رسم هذا المشهد صورة قاتمة لعلاقة الرجل بالمرأة وجرد المرأة من كل مشاعرها الأنثوية ، التي كانت البطلة مؤمنة أن لا وجود لها فهي لم تتحدث كامرأة من بداية الرواية ولم تتحدث بعاطفة في أي ناحية من نواحي حياتها حتى بكائها كان لأمور لا تدخل فيها المشاعر بل الاعتبارات ، وكان المشهد الأخير حين ذكرت أنها نامت مع زوجها ، وفي اليوم التالي تركته ، دون أن تبدي أي سبب وكأنها ترفض أن يخترقها مخلوق آخر أو أن هناك إنساناً يستطيع أن يحتويها ولو للحظات .

تتكرر في الرواية صورة المرأة في أكثر من شخصية فالأم مرسدس والابنة مرسدس والحفيدة مرسدس ، وأليينا البطلة هي القرينة ، صور مكررة ترسمها الرواية ، وكأن كل النساء متشابه ، ويسيرون في النهاية للوحدة والانعزال ، وكأنه أمر طبيعي يجب أن يتم ، بينما تعاطت الرواية مع الرجال بشكل مختلف ، وشخصيات مختلفة ، لم يظهر هذا الأمر بشكل كبير إلا في شخصية الزوج ، وبشكل أقل في شخصية والأخ والمحقق .

النزعة الفردية في الرواية قوية واللامبالاة أيضاً قوية ، وموت المشاعر والإحساس البشري ، ما عدى الخوف ، الذي يخرج من الخيال ، الخوف الذي يطارد الروح والروح المتجسدة في شخصية إليينا روح شبح ، لدرجة أنها كررت في أكثر من موقع في الرواية ، أنها نخاف الخروج ، لأنها تعتقد أنه لن يتعرف عليها أحد ، وفي أحد تلك المشاهد ، تمسح وجود الزوج وتمسح وجود الابنة .

هذه الرواية ترسخ مبدأ اللامبالاة والنزعة الفردية ، وهنا يجب أن نذكر مرحلة ما بعد الحداثة التي يطرحها المفكرون الغربيون ، والصورة التي ستؤول لها الأمور في النهاية لا محالة ، وهنا يجب أن نضع علامة استفهام كبيرة ؟ فتلك الصورة تعني موت الإنسانية وتحول البشر إلى آلات أو مجموعة من المشردين ذهنيا لا صلة لهم ببعض ولا يحتاجون إلى بعض ولا ينتمون لبعض ، صورة تدمر الأسرة وتقتل كل شعور بالانتماء إلى المجتمع أو الهوية أو الدين أو الأسرة .

لا يمكنني أن أحكم على الكاتب فهو كاتب عالمي كما يقولون ولم أقرأ له أي عمل آخر وما قرأت مترجماً للعربية بشكل موجز ، والذي أعرفه أن الرواية حازت جوائز ، والحكم على الترجمة أنها تنقل الصورة كاملة للقارئ أظن أنه صحيح ، فمن واقع قراءاتي أجد نسخاً كاملة ونسخ مختصر في الكثير من الأعمال الروائية العالمية ، لكن لم أجد نسخة أخرى لترجمة هذه الرواية .

أنصح بقراءة الرواية فهي عمل أدبي به عناصر واضحة يمكن تصورها وتخيل شخصياتها ونقدها ، تقع الرواية في 180 صفة مع المقدمة والتعريفات .