كلاكيت ثاني مرة ..

جلس بجوارها ورغم أنه لم يسألها، لكنها شعرت بسؤاله : لماذا تبكين .

هناك شيء يتحرك في نفسي يؤلمني، أحدهم استطاع أن ينتزع مني السعادة، كنت أظن أنه السعادة ذاتها، ظننت أنه يشعر بي .

عادت للبكاء من جديد ..

ثم صرخت ، كنت أحبه بجنون ، لكنه رحل .

كان ينظر إليها ودت لو يسألها: هل كان يحبك بجنون كما كنت أنتِ تحبينه ؟

أجابت دون أن يطرح السؤال: الرحيل يدمر كل التوقعات، ويقتل الأمل، الرحيل يجعلني أقسم أني أحبه أكثر من السابق، هل تعرف معنى الرحيل؟ اظن أن الرجال لا يعرفون ما الذي يصنعه الرحيل في قلب امرأة، لا يعرفون أن الحب حين يسكن في قلب النساء لا يترك مجالاً لغيره، فترغب أن تضع الرجل في كل ارجائها وهذا ما فعلته، لقد وضعته في كل أرجائي، لكنه رحل .

أبتسم رغم أن ألمها قد طغى على المحيط .

أنت أيضاً رجل، لا بد أنك دمرت امرأة، ووأدت فيها الشعور بالحياة، أنت رجل تجلس بجواري وتسألني، لماذا أبكي، ارحل عني لا أريد أن أتحدث مع أحد .

سمعها لكنه لم يتحرك، كانت ابتسامته تكبر، وعيناه تتألق أكثر .

نظرت إليه بغضب وقالت: هل تتوقع أن أعتبر جلوسك عندي مواساة، أم تتوقع أن أرتمي في حضنك لتمنحني السكينة، أم أن أقول لك كل اسرار الدموع التي تنزل، أو اطلب منك أن تساعدني، ماذا تريد؟

أبتسم لكنه لم يتكلم ولم يتحرك .

شعرت بوخزة في قلبها، ابتسامته بدأت تطعنها، شعرت أنه يستهزئ بدموعها، قامت ونظرت إليه بغضب ثم صفعته، اندهش من تصرفها لكنه لم يتألم، لم يتحرك من مكانه، ألقت بجسدها بجواره وغطت وجهها بيدها وانخرطت في البكاء، ثم قالت وهي تدفن وجهها بين كفيها: أنا أسفه لا أستطيع التحكم في تصرفاتي .

نظر إليها وأبتسم .

صرخت في وجه لا تبتسم، بدأت تضربه بكل ما أوتيت من قوة ثم هدأت وقالت: أنا آسفه، لكنها بعد ذلك قامت ورحلت دون أن تنظر إليه .

الحياة رحلت معها، لم يؤلمه رحيلها الآن، بل رحيلها منذ سنه، حين قال لها أنه يحبها، لم تلتفت إليه في ذلك الحين وقالت بهدوء وبمزاج عالي: أنا لا أناسبك، نظرت إليه بعدها وابتسمت وهو يحترق، لم تشعر بنيرانه ولم تعرف ما الذي فعلته حين أدارت له ظهرها ورحلت، الآن لم يأتي ليشمت ، بل هي من طلبت منه الحضور، تحدثت واشتكت، وهي من فقدت السيطرة على أعصابها، وصفعت شخص بجوارها وضربته، ثم أدارت له ظهرها ورحلت، شتان بين ذلك الرحيل وهذا الرحيل، في السابق تركته أشلاء، وفي الحاضر رحلت وهي تلملم أشلائها .

لم يتحدث لأنه يعرف أن الصمت كان أفضل من الحديث، يعرف أنها ستقول له أنها تتألم، ويعرف مصدر ذلك الألم، فمن منحها ألم الحاضر هو من منحها الهدوء في السابق ليدير لها ظهره ويرحل .

الصمت كان في المرة الأولى مؤلم ، وافي المرة الثانية أيضاً مؤلم، لكنه يعرف أن ما وصلت إليه لن يمنحه قلبها ولو منحها قلبه من جديد، فقلبها أصبح عند شخص آخر سيطارده ويبحث عن أي شيء يخصه، سيزورها في أحلامها ويقظتها، وسيحتل كل ذكرياتها .

انفجار لحظة .. 

نظرت له باستغراب، ومن حقها أن تنظر له بهذا الشكل، فعندما تخبر امرأة أنك لا تحبها لا تتوقع أن تنظر لك بنظرة الرضا، حين كانت تجلس بجواره قبل أن تسأله، كانت تشعر أنها الإنسانة الوحيدة في حياته دون ادنى شك في ذلك، لكنها الآن تحمل كل التساؤلات وتنقلها إليه بتلك النظرة الغريبة التي تحمل الاستغراب والرجاء والدموع، بل تتجاوز ذلك وتسأل: لماذا؟

لماذا لا تحبني؟ كانت تنتظر الإجابة، رغم أنها لم تطرح عليه السؤال من الأساس، لكنها كانت تتوقع أن يتحدث عن السبب الذي لا يجعله يحمل لها مشاعر الحب ولا يبادها العواطف في هذه اللحظة التي توقعت أن تكون نقطة محورية في علاقتهما، اخبرها بأنه لا يحبها وصمت، كان يعرف تلك الأسئلة التي تريد أن تسأله إياها، ويرى مشهد الدموع في عينيها، لكنه فضل الصمت .

الصمت، هو الحيرة التي أرسلها إليها ، وهي الحيرة التي ألقى فيها بنفسه، فأنعقد لسانه، ولم يستطع الحديث، وهي رغم كل الاستفهامات لم تنطق بكلمة، لم تتجرأ أن تسأله لماذا؟ شعرت بأنها لا تستق الإجابة، الشخص الوحيد الذي أحبته، لا يريد أن تكون حبيبته، ولا يريد أن يصل معها لما تتمنى، بالفعل لا تستحق الإجابة، وهو أيضاً لا يستحق السؤال .

والسؤال، يكرر نفسه بينهما فهي تسأل في صمت، وهو يجيب في صمت لا يسمع أحدهما الآخر، تريد الإجابة من صنم لا تعرف ما بداخله، وهو يشرح لمساحات الصمت في نفسه كل الأعذار التي احتجزها لهذه اللحظة، وكلاهما بدء يتحاشى النظر للآخر، كلاهما خائف من الكلمة أن تخرج وتفجر الصمت والدموع .

الدموع، شعر بحاجه للدموع، لكنه لا يملك أن يخرجها من نفسه كما يرها تتدفق على خدها ، رغبة كبيرة في البكاء، لا يعرف كيف يخرجها من نفسه، تمنى أن يصرخ، تمنى أن يبكي كطفل، لكنه شعر بالشلل، لسانه لا ينطق ولا يريد أن يحرك أي جزء من جسمه، كأن المحيط المقدس الذي يوجد فيه سيتدمر لو قام بأي حركة أو نطق بكلمة، تجرأ ونظر لها بطرف عينه ، يعرف أنها تنفجر من الداخل لكنه لا يريد أن يخرج ذلك البركان الذي بداخلها .

انفجرت، ولم تقل شيئاً، انفجر داخلها كل الحزن والغضب لكنها حين انفجرت لم تجرأ على طرح سؤال من كلمة واحدة، وقفت، لم تنظر إليه في تلك اللحظة، حملت حقيبتها، وأدارت له ظهرها ورحلت …