
قبل أن اقرأ هذه الرواية توقعت أن اجدها عميقة وتركيباتها تخرج عن المعتاد ولم يخب ظني حين بدأت، فحين تقرأ رواية للدكتور محمد اليحيائي يجب أن تتوقع أنك ستقرأ لشخص يُخرج المعاني من الأعماق وينقلك بأسلوبه الفلسفي بين مواقع مختلفة وأزمنة وشخصيات متنوعة ولا تتوقع أن تكون روايته مجرد سرد لأحداث منتظمة، بل يكون السرد في افق متحرك بين شخوص الرواية وأحداثها.

الحرب هو الموضوع، ثورة ظفار بما حملته من أثقال ومن قيم ومبادئ لم تتحقق على الأرض، التمرد على الواقع الذي نبتت أفكاره في الداخل ثم تشعبت ليوجهها الخارج لتفقد بذلك الكثير من قيمتها ومعناها الذي قامت من أجله، التغيير في الفكر والتغير السياسة وتصادم أفكار الثوار هي الأسباب التي قوضت الدعائم الأساسية التي قام عليها الثورة في الجنوب وجعل المحاربين يتصادمون بين الواقع المحلي والواقع الإقليمي هل يغيرون النظام في عمان أن يغيروا واقع المنطقة بأكمله، متناسين أن المواجهة لم تكن مع نظام منعزل، بل نظام تحاول القوى الفاعلة الكبرى حمايته بكل الوسائل.
وحين يفقد الأنسان البوصلة يتوه في أفكاره وهذا ما تجسد بشكل واضح في شخصيات الرواية فمنهم من يعيش أوهام الحرب ومنهم من تخلى عنها وأنتقل لصف السلطة ومنهم من رفض الواقع الداخلي وخرج ثم أخرج من جوفه كل ما ينتمي للماضي ليعيش حياه لا تمت لانتمائه القديم بصلة، وآخرون كانوا متفرجين يبحثون عن الحقائق التي لم يستطيعوا أن يقدموها للأجيال لتعرف القصة كامله، وتستمع لطرفي النزاع بشكل محايد.
تحتار وأنت تقرأ من هي الشخصية الرئيسية في هذا العمل، هل هو سعيد صالح أو سعيد قيصر أم هي كرستينا سعيد أم والدها سعيد علي، ستكتشف أن البطل الحقيقي في الرواية هي الحرب بكل ما حملته من أفكار ومبادئ وبما تعنيه من تمرد أراد أن يكسر الطغيان ويحقق الحلم، الحرب بما حملته من كوارث على أصحابها، وفعلته في المزاج وما قتلته من أمل، المحور الرئيسي الذي سيربط جميع الشخصيات والأحداث هي الحرب التي جرت في الجنوب وكانت تحمل أفكاراً اكبر من الواقع ولا تنتمي لتلك الأرض، فتكسرت بن التغيير السياسي وبين ردة الفعل العنيفة والأطراف التي وقفت في مواجهتها وضعف الأطراف الداعمة لها.
ستكتشف أن الأمل في التغيير باقٍ في النفوس لكنه لم يتبلور بعد، الألسنة ما زالت مربوطة بأعراف وقوانين وخوف يقيد العقول التي تريد أن تطرح مشاكل المجتمعات الخليجية بشكل صحيح وتبحث عن حلول حقيقية تجعل تلك الدول المشتتة كيانات لها أنظمتها التي تحترم مواطنيها وتبني مستقبلها بشكل صحيح تندمج فيه كل المكونات وتُطرح من خلاله كل الأفكار دون خوف.
استخدام ذكي للعاطفة من قِبل الراوي زاوج بين العاطفة والتردد بين البقاء في الوطن والرحيل، ولن يكتمل الشهد أمامك، بل يبقى مبتوراً يحتمل كل التوقعات، كما النتائج التي انهت الحرب وأبقت احتمالات تجدد الثورة وتجدد الغربة والمعتقدات، لكن الحب كما الأمل في النفوس لا يرحل ولا نهاية له.
المتعة التي ربما لا يتقبلها البعض هي تباعد فصول الشخصيات، فهناك أبطال حضروا بقوه في البداية ثم غابوا بين أبوابها كهوامش ثم يعودون بعد أن يظن القارئ أن دورهم أنتهى أو أنهم كانوا مقدمة تمهيدية للدخول لعالم الرواية، وكذلك بعض المشاهد التي تخرج عن سياق الرواية كمقال يصف مطعم إيطالي، أيضاً العودة للبعيد في حرب سابقة بين الأمام والسلطان لكن تلك المسافات الخارجة عن النص تعتبر دمج لواقع الشخصيات في المشهد القائم الذي يرسمه الراوي كمشهد عام.
الرواية ممتعة وعميقة وتحمل أسلوب متميز تقع في 360 صفحة وأنصح بقراءتها بشكل عام وللمهتمين بالشأن العماني والباحثين في التاريخ السياسي لمنطقة الخليج بشكل خاص.